((الحياة في الخروج))
((للأمانة..الكاتب:::عبد الله بن سليمان العتيق))
كل فتح جديد، وكل خطوة إلى الأمام في مجال المعرفة إنما هي متأتية من الشجاعة، ومن الشدة على النفس، ومن النقاوة تجاه الذات. نيتشه تجري الحياة، كثيراً، بما لا يشتهي الإنسان، وتأتي بما لا يروق له، فإما أن يحتمل أولا، ومن احتملَ ملَّ، ومن لم يحتملْ زلَّ، فهو بين نارَي القرارَيْن، وفي جحيم الحالين. كثيرون هم الناس الذي ذاقوا لأواء الدنيا، واستطعموا مرارتها، ولكن قليلٌ منهم من تجاوزَ ذلك وغادره لأفضل منه. إن مجاوزةَ الحالِ اللا مقبول من محاسن ما يجود به العقل على الإنسان، فإن البقاءَ في حالٍ لا مقبولةٍ كالبقاءِ في جوف نارٍ تصطلي، ولا يطيق أحدٌ صبراً على نارِ الحياة.
هذا الشيءُ ليس من صنيع الإنسان، بل هو قانون الحياة، وفيه سرها، فالخالقُ أمرَ بذلك، ففي طلب الأرزاق أرشد إلى الضربِ في الأرض والمشي فيها، وكذلك في تحصيل المعارف وثقافات الحضارات، وبهذا كله تكون وظيفة الخلافة في الأرض، وأما أن تتحقق المقاصد الإلهية بالمكثِ دون بحثٍ فهذا من عبثِ الإنسان المرفوض في قانون السنن الكونية، والخالق في شرائعه أقرَّ تلك السنن. فليس في فلسفة الخروجِ والطرْقِ في الأرضِ إلا تحقيق لمقاصد الله الخالق، وتحقيق لحقيقة الإنسان.
تناقلَ الناسُ هذا المعنى الجميل، ففي شَعبيِّ الأمثالِ ” ديرتُك التي تُرزقُ بها “، فليست هي التي تنشأ فيها، فالإنسان ابنٌ للأرضِ التي تصنع منه ناهضاً وعامراً وبانيا، وليس ابن الأرضِ التي تصنع منه منتسبا منتمياً، لأجلِ هذا كانت الرحلةُ في طلبِ أرزاق الحياة، الأرزاق للجسد، والأرزاق للعقل، والأرزاق للحياة بعمومها، فرحلتِ الأمم لتبني حضارتها، فاستكشفت العالَم من حولها حتى وجدت الأرضَ التي تناسبُ طموحها، فكانت نهضتها، ورحل الأفرادُ في طلب المعرفةِ حتى وجدوا الأرضَ التي آوتهم من مكان بعيدٍ، ووجدوا الأرضَ التي فيها من يمنحهم المعرفة والعلم، وكذلك رحلوا من أجلِ الرزقِ وتحصيله حتى وجدوا بابه على مصراعيه مفتوحاً في أرضٍ غير أرضهم، وما كان للباب أن يُفتح لهم إلا بمفتاح مغادرة الأرضِ التي نشأوا فيها. رحلوا من أجل الفكرِ ونشره، ففي حال أن أراضيهم لم تستوعبهم تركوها ليجدوا أراضٍ أُخَرَ تستوعب فكرَهم، ولهذا كان صُناع أمجاد الحياة الحياة نهضة وحضارة ومعرفة وعلما وإصلاحاً ممن تركوا أرضَ الأمنِ المهلك إلى أرضِ الخوفِ الآمن. فهم آمنوا بمدى قيمتهم في الحياة، فتقلَّدوا الحكمةَ: الحياة إما مغامرة جرئية أو لا شيء. فآثروا أن يكونوا ممن يصنع الحياة. وأما من بقيَ في ظلِّ حاله فهو راتعٌ مع الرواتعِ، والرتعةُ لا تليقُ إلا بمن ليس إلا شيئاً زائداً لا قيمة له.
ففي الخروجِ عن المألوفِ، وفي مغادرةِ مواطنِ الأمنِ المهلك، وفي تركِ أراضي النفس، بحثاً عن قيمة الحياة، واستكشافاً لجوهر الإنسان، وسعياً لتحقيقِ غايةِ الإيجاد، في ذلك كله من أجل ذلك وأكثر، تحصيل للمعاني السامية التي تليق بالإنسانية، وليس الحيوان أحقَّ بها، فلا حيوان يبقى في أرضه، إلا حيوانا عاجزا، والحيوان العاجزُ عن ترك أرضه غير مرغوب فيه من لدن شرائف النفوس.
أما في عدم ذلك، فهو لزوم لدائرة الأمن، وهو ما اعتاده الإنسان، وما اعتاده لا يرغب في تركه، لأنه متخوفٌ من المغامرة، ولا يُغامرُ إلا شجاع القلبِ والنفسِ والروح، وبتلك الشجاعة تأتي فتوحات الحياة على الإنسان ليصنع الحياة.
في النظر إلى النهضات التي صنعت الحضارات الكبرى، وفي النظر إلى الناس الذي خلقوا آثارا في الحياة، نجد أنهم غادروا محلَّ الركود ومحل الأمن إلى محل الحركة والخوف، ليس القصد أنهم خاضوا ما هو خوفٌ متحققٌ، وإنما خاضوا المخاوفَ، لأن من يروم الأمجاد يقصد مخاوفَ الأحوال، ولا يركن إلى مأمنٍ، فليس في الزائل مأمنٌ. حين غادروا تلك الأحوال التي تدعو إلى الدَّعةِ كانت لهم آثار كالجبال، وأبقى لهم التاريخ ذكرا. هو شيءٌ صعب على النفس، وقاسٍ على القلب، ولكنه ضرورة لا بُد منها، والضرورات لا بُد من ارتكاب المحظورات من أجلها. فلا يُمكن لأحد أن يكون ذا أثرٍ وهو ملازم ظلَّ ذاته، ملتصقاً بتراب نفسه، فهذا لا يحمل شيئاً، وفاقد الشيء لا يُعطيه.
إن فلسفة الخروج عن المألوفِ فلسفة جداً راقية، وعميقة المعنى والبُعد الأثري على الحياة، سواءً الحياة الخاصة بالإنسان نفسه أو العامة بكل جوانبها، حيث في الخروج تعرُّفُ النفسِ والعقلِ على الكثير من أحوال الحياة وثقافات الدنيا وحضارات الوجود، وهذا التعرُّفُ سيمنح الإنسان ثروة عقلية ضخمة، وحينما تتكون لديه هذه الثروة المعرفية الكبيرة ستمنحه تفكيراً رصيناً، ففي اجتماع الثقافاتِ صناعةُ جودة الرأي، ورأي الجمعِ خيرٌ من رأي الفرد. والتفكير الرصين سيكون عميقاً الأثرِ على الإنسان، فيكون بصيراً في أسرار الوجود حوله، مُدَقِّقَ النظرِ في أحوال الحياة، مما يمنحه سلوكاً مهذَّباً في تعامله مع حياته بصورة عامة. ولا يمكنه أن يكون ذا سلوك مهذبٍ وهو ماكثٌ في الظلِّ القصير، ولا في الدائرة الضيقة. عندئذٍ سيكون عائداً بسلوكه المهذَّبِ إلى تفكيرهِ ليعيشه بهدوءٍ ويتعاملُ معه بما ينبغي كما هو مناسبٌ للتفكير، فينتقلُ بهدوءِ التفكيرِ إلى معارفه وثقافاته ليستخرجَ منها فلسفته التي يصنع بها حياته الجديدة. وأما لو كان غيرَ مغادرٍ مكانه، ولا مُجاوزاً مألوفَه، فإنه لن يكتشفَ شيئاً، بل سيبقى في ظلِّ ذاك الحائط الذي استندَ عليه وآوى إليه، وكلُّ عقلٍ بظلِّ حائطِ معرفته.