بسم الله الرحمن الرحيم
لقد خلَق الله تعالى الجنَّ والإنس لعبادته وحدَه، وابتلاهم بحكمتِه فصاروا فرِيقين، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]. ولم يزلِ الشيطان يجتهِد في الإبرارِ بقسمه لإغواءِ بني آدم مجلِبًا عليهم بخَيله ورَجلِه ممتطِيًا شياطينَ الجنّ والإنس، وما بعث الله تعالى نبيًّا ولا رسولاً إلا عودِيَ وكذّب وأوذِيَ، وهذه سنّة الله تعالى الجارِية بحكمتِه في رسلِه وأنبيائه وفي أتباعِ الرّسل، من لدن نوحٍ عليه السلام وإلى يومِنا هذا، واقرأ في التنزيل العزيز قصَصَ الأنبياءِ وأتباعِهم، كلُّهم أوذِيَ وطورد، ومنهم من قتِلَ أو أُبعد.
ألم يلقَ إبراهيم الخليل في النار؟! ألم يطارَد موسى وقومُه إلى فجاجِ البحار؟! ألم تقتل بنو إسرائيل أنبياءَ الله؟! ألم يجتهِدوا لقتل وصلبِ المسيح عيسى ابنِ مريم، فأنجاه الله ورفعَه إليه وآواه؟! ثم مَاذا لقي سيِّدُ الرسل وأشرَف الخلق محمّد ؟! تمالَؤوا على قتلِه، ولحِقوه في دار هجرَته، وحاربوه، وقتَلوا أصحابه، وشجُّوه وكسروا رباعِيته، وخاضوا في عرضِه، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. وفي كلِّ هذه الأحوالِ تكون العاقبةُ الحسنى للمتَّقين، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173].
بل حتى لمّا أظهرَ الله تعالى نبيَّه محمّدًا جاءت جَحافلُ الروم من أقصى أراضِيها مِن غربِ شمال الأرض لتهدمَ الدين الفتيَّ في جزيرة العرب، والذي لم يحارِبهم ولم يدخُل أراضيهم.
إنَّ النبيَّ حين تجهّز لغزوةِ تبوك لم يكن مبتدئًا بقتال بقدر ما كان مبتَدئا بالدّفاع، فما الذي أتى بالرومِ من أقصى أراضيهم لوأد الدين الجديد؟! إنه الطغيان والحِقد القديمُ والذي لا زال يتجدَّد على المسلمين إلى اليوم. وأتمَّ الله وعدَه لرسله وأتباعِهم حين نجَحوا في اجتيازِ المحن وأظهَرهم الله على أعدائهم.
ومِن لطائفِ تدبير الله أنَّ النبي لم يتجاوز حدودَ هذه الجزيرةِ حين كان يدافع عن دينهِ، ثم لم تمضِ ستُّ سنين حتى كان خليفته الفاروق رضي الله عنه يتسلّم مفاتيحَ بيت المقدس، ويصلي في المسجدِ الأقصى، ويأبَى البطارقة تسليمَ المفاتيح إلا للفاروق رضي الله عنه، ويعترِفون بوجود صفتِه في الكتب التي بين أيدِيهم، ويقِرّهم على أموالهم وأملاكهم، ويترك لهم كنائسَهم، ويطوِي عليهم كنفَ رحمة الإسلام وعَدله، ويشملهم بحمايتِه ورعايته.
ثم تدول الدوَل، ويفرِّط بعض المسلمين في عهد الله، فيضيع بيتُ المقدس، بل كثير من بلادِ المسلمين، بل عاثَ الأعداء في الدّماء والأموال والديارِ والتراب على طريقَةِ وحوشِ الغاب.
حكَمنا فكان العدلُ منّا سجيّةً فلما حَكمتُم سالَ بالدم أبطَحُ ، وصدق الله: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8].
ولم تواجِه أمّةٌ من الأمَم كما واجهت أمّة لإسلام، خصوصًا في العصر الحاضر، في زمنِ عولمة المبادئ والفكر وهيمنةِ القوّة على القِيَم، تهدَّد أمَمٌ بالذّوبان وشعوب بالضّياع، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
ولقد كانتِ المؤامرات في السّابق تُحَاك ضدَّ الإسلام وأهله، أمّا اليومَ فلا مؤامرات، بل هي حرب معلنةٌ تحرِّكها أحقاد الماضي وأطماعُ الحاضر والمستقبل، في حالٍ وصلت فيه أمّة الإسلام إلى مرحلةٍ واهنة، أصبحَ فيه الصراع صراعَ بقاء أو اضمحلال. وحالُ المسلمين اليوم ليسَ بحاجةٍ إلى شرح أو تصوير، والتباكي على واقع الأمة لن يجديَ شيئا، إنما المجدِي هو التفكير الجادّ في سببِه وعلاجه ودائِه ودوائه، ثم السعيُ الصادق المخلِص لإصلاح النفس والمجتمَع لإصلاحِ الأمة كلِّها.
إنَّ التنظيرَ للأمة ليس بالأمر الهيِّن، والتطبّب بعلمٍ وبلا علم في جسَد الأمة المثخَن ليس كلأً مباحًا لكلِّ أحد، ولقد خاض في لجّةِ هذا الأمر ألوفُ الأفراد والجماعات، كلُّهم يرى أنه الطبيب المداوِي، فمخطئٌ ومصيب، ومغرِب ومقارب، والحقُّ أنّ أمةً قامت برسالةٍ ذات معالم وحضارَة ذات مبادئ لن تنهَضَ من عثرتها ما لم تعُد لذات الرسالة وتترسَّم السننَ الإلهية والقواعد الربانيّة في قِيام الأمم وتعثُّرها ونهوض الدول وسقوطها، وكلُّ ذلك مبثوثٌ في القرآنِ العظيم.
لا يجادِل عاقلٌ في أثر الأعداءِ في تحطيم الأمة والنّيل منها والكيدِ لها والتربُّص بها، إلاّ أنَّ هذا في ميزانِ السنَن ليس هو السبَب الرئيس في الوضع التعِيس الذي وَصلت إليه كثيرٌ من أحوال المسلمين.
إنَّ هنالك قانونًا إلهيًّا يجب نصبُه أمامَ العين: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
إنَّ الصّحابةَ الأبرارَ الذين يقدِّمون أعناقَهم وأرواحهم في سبيلِ الله ويقاتلون بجِوار رسولِ الله تحوَّل نصرُهم في غزوة أحُد إلى هزيمة؛ بسبَبِ مخالفة قلّةٍ منهم في أمرٍ تأوَّلوا فيه، فنزل الرماةُ من الجبل وقد نهاهم النبي عن النزولِ، لكنّهم ظنّوا المعركةَ قد انتهت. فهل تقيس الأمة اليومَ مخالفاتها بهذا المقياس؟! لقد صدق الله: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ. إنَّ سنَنَ الله لا تحابي أحدًا، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40].
إن حرثَ الدنيا وعلومَها أمر مشتَرَك بين شعوبِ الأرض من شرقها لغربِها، لكنَّ رسالةَ هذه الأمة من نوعٍ آخر، لا قيام لها بدونه، ولا سعادةَ للبشرية إلا بهديِه، إنها رسالةُ السماء ودين الله الخاتم، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فهل قامت الأمّة اليومَ برسالتها حتى تستحقّ أن تقودَ العالم؟! إنَّ دين الإسلامِ ليس ضمانًا للآخرة فحسب، بل هو سببُ بقاء الأمّة في الأرض وإثبات هويتِها، وإلاّ فليست بشيء دونَه.
ومِن خيانة الأمة أن تبردَ عاطفتها تجاه حقوق الله، وأن تجعلَ حبَّها وبغضها مرتبطًا بمصالحها لا بمبادِئها. وإنَّ الأعداءَ كَسبُوا معارِكَهم حين أفلح الغزوُ الثقافيّ في الإبحار بفئامٍ من الأمة بعيدًا عن دينهم، وتهوين قِيَمه ومثُلِه وأحكامِه أمام أعين أبنائِه، وحين أفلح في صنعِ جيلٍ يُقاد من غرائزه ويُغرَى بعبادةِ الحياة الدنيا وينسى ربَّه وآخرتَه.
لسنا أوّلَ أمةٍ ابتُلِيت وفُرِض عليها أن تكافحَ لتحيا كما تريد، وإنَّ الهزيمة تجيء من داخلِ النفس قبل أن تجِيء من ضغوطِ الأعداء. ولما أمَرَ الله بني إسرائيل بدخولِ الأرض المقدَّسة ووعدهم بالنصرِ إن هم دخلوا كما أمرَ أبوا وتعلَّلوا بقوّة العدوّ، فلم يستحقّوا دخولَها، بل كتب الله عليهم التّيهَ أربعين سنَة، حتى انقرَض الجيل الواهن الخامِل، ونشأَ جيلٌ جبَلته المعيشةُ بين الجبال أن يكون مثلَها في علوّ همّته وقوّة بأسه وثباتِه.
إنه يمكن تصوّرُ تضامنٍ إسلاميّ ناجح إذا التفَّ الرعاة والرعية حولَ كتاب الله وسنّة رسوله ، وارتَقَى العقل إلى مستوَى الشمول في القرآنِ العظيم، وسارَ علَى هديِ الوحي. والعملُ للوحدة الإسلامية شرفٌ باذِخ ومجد شامخ، لم يفلِحِ الأعداء في النيلِ من الأمة إلا حين تفرَّقت وتمزَّقت. يجب على المسلمين أن يدرِكوا هذه الحقيقة، وأن يستضيئوا في نهضَتِهم بالوَحي، ويلتَزِموا شرائعَ الإسلام وشعائرَه، وعليهم مع ذلِك كلِّه أن لا يغفِلوا الأخذَ بالأسباب المادّيّة، والتي هي من سنَنِ الله في الكون، وأن يستفِيدوا من تجارِبِ الأمم حولَهم، وما أصلَحَ بعضَ جوانب دنياهم يمكِن أن يصلِحَ جوانبَ مِثلها من دنيانا.
وثمّةَ جبهاتٌ يقتضيها شمولُ الإسلام تجِب مراعاتُها عند نُشدانِ الرّقيّ، أهمُّها جبهَةُ الأخلاق والسّلوك والتنمِية والعلم والتّعليم.
وأمامَ العامِلينَ المخلِصين لأمّتهم ميدانٌ رَحب للرقيِّ بأمّتهم ودفع السوء عنها، وإنَّ وعد الله حقٌّ آتٍ لا محالة، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
إنَّ مِنَ المبشِّرات والمحفِّزات أنَّ الأمّةَ مزوَّدَة بدينٍ عصِيٍّ على الفناء، له قدرةٌ على بعثِ الروح الهامِدَة وتجديدِ الأسمالِ البالية، وتِلك وعودُ لله في الكتابِ والسنة، وهي ما زالَت تستَشفي من سقامها، وتنتَقِل في مراحل العافيَة من طَورٍ إل طور، وتحاول أن تستعيدَ قواها كلَّها، وتستأنفَ أداءَ رِسالتها الأولى، وأُرَاها بإذن الله بالغةً ما تحِبَّ.
ومع تفاقُم المحَن ترى في طيّاتِها المِنَح، وسننُ تقضِي سقوطَ الطغيانِ والاستبداد والاستعلاءِ بالظلم والفساد، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. وفي سورَةِ يوسف وفي أَطواءِ فصولٍ مُثيرة منَ الغربة والسّجن والإغرارِ والظّلم يبرُز قانونان جليلان، الأول: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، والثّاني: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. ففي الآيةِ الأولى نهجٌ صارِم في الاستقامة على التّقوى الصبرِ والإحسان، وفي الأخرَى الاستنادُ إلى الله في ارتقابِ مستقبَلٍ أفضل مهما أظلَمَت الآفاق في مرأَى العين، فهل تتِمّ تنشِئَةُ الأمة على هذه القواعدِ؟!
((صالح بن محمد آل طالب))