{{التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم}}
{ للأمانة..الكاتب.الأمير شكيب أرسلان}
لا أريد أن أناقش أحداً ولا أن أسمي أشخاصاً ولا أن أحمل على باحث أديب بتجهيل، وإنما أُلمح من خلال الكتابات التي يجود بها بعضُ أدباء الوقت منزعاً، إن كان في حد ذاته محموداً فقد ينقلب في إساءة استعماله مذموماً، ويصير ضلالاً.
ولع بعض الأدباء[21] باتهام التاريخ الإسلامي الذي لدينا وسلوكِ طريقة في التعليل لم يسلكها الأولون؛ ارتياداً لوجوه جديدة، وأسبابٍ للحوادث لم تكن معروفة، بحيث يُقال: إنهم كشفوا حقائق تاريخية لم يعرفها غيرهم، أو عرفوا أسراراً أعماها التاريخ الديني أو عَمّتْها السياسةُ وأهواؤها على الجمهور، ويسمون ذلك تحقيقاً وتمحيصاً، ويظنون أن التمحيصَ والتحقيقَ هما بمجرد المخالفة، والخروج عمَّا عليه الرأيُ العام.
والحقيقة أنه إن كان مقصدُهم مجردَ المخالفة، وتغيير الأسلوب؛ لعدم الصبر على طعام واحد فقد أصابوا الغرض.
ولكن إن كانوا يزعمون أن هذه التعليلات الغريبة هي الأصل في تلك الوقائع فليسمحوا لنا أن نستعفيَهم من التصديق؛ لأننا نعرف التاريخ بالأدلة العقلية والنقلية، وملاحظة ما سبق وما لحق، واستنباطِ النتائج من المقدمات، ولا نعرفه تخرصاتٍ وافتراضاتٍ وأبنيةً على غير أساس.
فإن كان هذا هو التمحيص التاريخي الذي يتوخى بعض العصريين أن يقلد به الإفرنج فلا كان هذا التمحيص الذي هو عبارة عن قلب الحقائق؛ لأجل الإتيان بالبدع، ويجلُّ علماء الإفرنج عن أن يكون تمحيصهم من هذا النمط، وقد خلط منهم من خلط في معرض التمحيص، ولكن نبَّه المدققون منهم على أنهم خلطوا.
فعندما يقوم واحد، فيذهب إلى أن تاريخَ حربِ اليمامة محاطٌ بالغموض، وأن مُقاتلة أبي بكر لأهل الردة لم تكن من أجل إقامة الدين، بل من أجل تأسيس الملك، وما أشبه ذلك من التوجيهات التي لم يقم عليها أدنى دليل نعلم أنه حاول أن ينهج مناهج الممحصين، فظن التمحيص مجرد الخروج عن الإجماع ولو كان الإجماع صحيحاً؛ فلم يُصِبِ المرمى.
وعندما يقومُ آخر فيدَّعي أنَّ السلفَ في صدرِ الإسلام وضعوا سانسورا[3] على الشعر الجاهلي المُشْرَبِ مبادئ الوثنية أو النصرانية أو اليهودية نعلم أنَّ هذه الدعوى مبنية على الافتراض والتخيُّل، وأنها لا تستند على دليلٍ، بل الواقع يُناقضها من كلِّ الجهات.
أعجبتني جداً عبارة الذي ردَّ على هذه الفئة[4] فقال لهم: مَنْ مِنْ ملوك المسلمين وحكامهم أمر بوأد الوثني واليهودي والنصراني ومحوه؟ ومَنْ مِن أعوان هؤلاء الحكام تولَّى ذلك؟ وكيف كانت طريقةُ المحو؟ وهل كُتب لها النجاح في كلِّ بلادِ الإسلام؟...إلخ..
والحقيقة أنه ليس لهم من جواب على هذا السؤال، ولا حيلةَ لهم في التخلص منه إلا بإيراد أدلة واهية لا تدفع شيئاً من حقيقة حرية الرواية في ذلك العصر، ومِن كون بابها بقي مفتوحاً على مصراعيه، ولا تنفي أن عصر الصحابة لم يعرف السانسور، ولا مراقبة الرواية، ولا كمَّ الأفواه، ولا شيئاً من أوضاع =ديوان التفتيش+.
وإذا تأملتَ في كلامِ هذه الفرقةِ رأيتهم يشيرون من طرف خفي إلى نزول درجة الحضارة التي كان عليها الصحابة، وأن شرائعهم وقوانينهم إنما كانت شرائع قوم في طفولة المدنية، وأنها لا تمس الحياة إلا قليلاً، وما أشبه ذلك، ثم ينسون أن مراقبة الكتابات والروايات إنْ هي إلا من أوضاع الهيئات الاجتماعية المتمدينة التي استبحر فيها العمران وتأثَّلَ الملك، وأن السانسور لا يأتي مع بداوة المجتمع، ولا يعقل وجوده في أيام السذاجة كالتي عاش فيها النبي " والصحابة رضوان الله عليهم.
فمراقبة الكتب والخطب كانت تقع في رومية والقسطنطينية لعهد عظمة القياصرة، وفي أيام سلطة الباباوات، وفي عهد ملوكٍ فاتحين كلويس الرابع عشر، وقد بالغ فيها نابليون الأول ثم نابليون الثالث، وقد وقعت من أيام العرب في عهد العباسيين وغيرهم من ملوك الأعاجم، أو الملوك العرب الذين اتخذوا أطوار الأعاجم.
فأما القولُ بأنها كانت في عهد الخلفاء الراشدين وفي أيام الصحابة فمحضُ تحكمٍ ومكابرة.
نعم كان هؤلاء الناس من شديدي التحمس بالدين الجديد الذي جاءهم به محمد" ولكن حماستهم هذه لم تَقْلَعْ ما في قلوبهم من حبِّ الحرية التي نشأوا عليها في الجاهلية، والتي لا يوجد في الشرق ولا في الغرب أمةٌ بلغت شَأْوَ العرب فيها.
ومن قال: =إن العرب أعرق الأمم في الحرية+ فغير مبالغ؛ لهذا تجدهم رووا بألسنتهم، وكتبوا بأقلامهم جميع مطاعن المشركين في النبي " وصحْبِه، ولم يُخْفوا منها قليلاً ولا كثيراً، ونقلوا الشُبَهَ والاعتراضات التي كانت تقع على الرسول ورهطه، وذكروا كثيراً مما كان يردُّ به بعض العرب على رسول الله " وكيف أنَّ اثنين تخاصما إليه، فحكم لأحدهما فقال المحكوم عليه: هذا حكم لم يُرد به وجه الله، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((أوذيَ موسى من قبلي بأكثر من هذا)).
وغير ذلك مما هو مستفيض في كتب السيرة النبوية وأخبار صدر الإسلام، ومما رواه الرواة المسلمون، وحرره الكتبة المسلمون، وأقرأه العلماء المسلمون.
ولم يكن عندهم حرج في نقل تلك الأحاديث وإبرازها كما جاءت؛ لأنهم كانوا على بينة من دينهم الذي دانوا به، وكانت قلوبهم مطمئنةً بالإيمان، وكانت سيرة النبي " معلومة عندهم بدقائقها، فلم يكونوا يحتاجون فيها إلى السانسور دَرْءاً للشبهات عنها، وخوفاً من أن يُفضي تداول هذه الروايات إلى زعزعة عقيدة الإسلام التي لم تكن منذ جاء بها صاحبها " إلى اليوم على شفا جرف هار.
إن الإسلامَ مولودٌ رُزِقَ الصحةَ، ووثاقةَ التركيب منذ ولادته.
نعم في هاتيك الأيام وما يليها كانوا يردون[5] أهاجي بعض الشعراء للصحابة والأنصار ولبني النجار، وفي تلك الأيام كان يُعاتَبُ الرسولُ ويُقال له:
ما كان ضَرَّكَ لو عَفَوتَ فربما *** منَّ الفتى وهو المَغيظُ المُحْنَقُ
في أيام السلف كان يُنادي الأخطل:
ولستُ بصائمٍ رمضانَ عُمري *** ولستُ بآكلٍ لحمَ الأضاحي
?ولستُ بقائلٍ ما عشتُ يوماً *** قُبيلَ الصبحِ حيَّ على الفلاحِ
كان يقولُ هذا ويدخلُ على الخلفاء، ويُجيزونه الجوائز السنية، وكان هو وغيره من النصارى واليهود يفتخرون بدينهم، ويُعلنونه في أشعارهم التي كانَ يرويها المسلمون، ويُقيِّدونها في دفاترهم.
ولمَّا جاءَ الملكَ النعمانَ بن المنذر رجلٌ نصراني في اليوم الذي كان عنده يومَ بؤس وأمر النعمان بقتله، استماحه النصرانيُّ مُهلةً أن يذهبَ ويودِّعَ أهله، فأذن له، على أن يقدِّم كفيلاً يحل محله في القتل إذا هو لم يرجع، فرجع، وتعجب النعمان من وفائه، فسأله: ما حملك على هذا الوفاء؟ فأجابه النصراني: حملني ديني! فقال له النعمان: وما دينك؟ قال له: النصرانية، وتنصَّرَ النعمان بعد ذلك.
فكانت هذه الرواية مما حرَّره المسلمون ولم يغمطوا النصرانية حقَّها، ولا غمطوا اليهودية أيضاً حقَّها.
وأجمع العرب المسلمون على نقل مآثر السموأل، وكان السموأل يهودياً، ومازال السموأل مَضْرِباً للأمثال في علوِّ النفسِ وكرمِ السجية إلى يومنا هذا، حتَّى قال شوقي شاعر العصر منذ أيام قلائل[6]:
كأنَّ من السموأل فيه شيئاً *** فكلُّ جهاته كرمٌ وخُلْقُ
فكيفَ يكون المسلمون الأوائل حاولوا خنقَ كلِّ صوتٍ غيرِ صوتهم، ومحوا آثارَ النصرانية واليهودية والوثنية من شعر العرب؟
ثم إنَّ شعرَ شعراء النصرانية في الجاهلية يملأ الدواوين، وما منهم إلا من حرص علماء الإسلام على التنبيه أنَّه كان نصرانياً، وقد نقلوا خطب قس ابن ساعدة الذي كان مُطراناً، ونقلوا ثناء النبي" عليه.
وأما كون ديوان شعراء النصرانية المطبوع في بيروت موضوعاً، وأنَّ الشعراءَ المرويةَ أشعارُهم فيه لم يكونوا نصارى، بل جعلهم صاحب الديوان نصارى وهم جاهليون لا غير فمن يقول هذا؟ ومن يصل به المراء إلى إنكار أن أكثر أولئك الشعراء كانوا نصارى؟ غاية ما يُقال: إنَّ بعض أولئك الشعراء لم تثبت نصرانيتهم، وهذا لا ينفي أنَّ شعراء كثيرين مثل العبادي، والأخطل، والقطامي كانوا نصارى مجمعاً على نصرانيتهم، وأنَّ المسلمين نقلوا أشعارهم كما هي ولم يحذفوا منها شيئاً، وكان شعراء المسلمين يناقشونهم ويداعبونهم، وكان جرير يقول:
قال الأُخيطلُ أن رأى راياتهم *** يا مارِسرجس لا نريد قتالا
فالقول بأن النبي" وأصحابه لم يبقوا على أي نزعة تخالف دين الإسلام، وأنهم طووا شعر النصارى واليهود والمشركين محضُ تحكمٍ لم يقم عليه أدنى دليل، بل قام الدليل على حرية الإسلام.
ونقل رواة المسلمين ليس شعر النصارى واليهود والمشركين فقط، بل أهاجيَ كثيرةً قالها هؤلاء في النبي وأصحابه وأنصاره.
وأما عدم حرمة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة للشعر وقولهم إن روايته ضلال فهذا زعم باطل مخالف للإجماع، فقد روى النبي -صلى الله عليه وسلم- الشعر[7] واستحسنه وقال: ((إنَّ من الشعر لحكمة)) ورواه عمر وعلي وسائر الصحابة، وتناشدوه، وطربوا له وكان فكاهة مجالسهم، وقصة كعب بن زهير مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وإنشاده إياه: بانت سعاد.
واهتزاز النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه القصيدة وإنعامه على كعب ببُردته الشريفة كلُّ ذلك لا يحتاج إلى بيان.
ولكنَّ الشعر كسائر الأشياء إذا أسيء استعماله انقلب إلى الضرر، وإذا كان وقعَ من عمر ÷ وهو من أبصر الناس بنقد الشعر وأشدهم اهتزازاً لجيده تضييقٌ على الشعراء، فيكون في المواطن التي أسيء فيها استعمال الشعر، وصار باباً للمشاحنات والفتن.
وكما أنَّ للخليفة طبيعةً ينفش بها إلى الأدب، ويعجب بسحر البيان فإنَّ عليه واجباً هو حماية الأعراض، وحفظ السلام.
وأما إزراء الشعراء بالعلماء، وما قاله بعض هؤلاء في الإعراض عنه، والتعوذ منه فهو من باب التورُّع من بعض الفقهاء، وذلك لأنهم كانوا يرون فيه مبالغة، وغلواً، وعبثاً، فأشفقوا من أن يؤثِّرَ الاعتمادُ عليه في أخلاقِ النشء، ويصرفهم عن العبادة.
ولكن هذا الزهد في الشعر لم يحملهم، ولا حَمَلَ الخلفاء والسلاطين على منع قرضِ الشعرِ وروايته والتأدبِ به، وذلك كما أنَّ نصرانية الأخطل والقطامي وأمثالهما لم تمنع متأدبي الإسلام من رواية أشعارهم، وحفظها والتأدب بها، وأن وثنيةَ أكثرِ شعراء الجاهلية لم تَحُلْ دونَ انطباع طلاب الفصاحة من المسلمين بأساليبهم، ونسْجهم على منوالهم.
ومَنْ مِنْ العلماء والمؤرخين المحققين يقدر أن يقول إن أدباء العرب بعد الإسلام رغبوا عن شعر الجاهلية، وأهملوا روايته؛ من أجل أن قائليه كانوا مشركين؟ أو أن المسلمين طووا كلام قس بن ساعدة، لأنه كان نصرانياً؟ أو لم يعجبوا بقصيدة:
إذا المرء لم يَدنس من اللؤم عرضه؛ لأن صاحبها كان يهودياً؟ من يا رب يقول هذا إلا الذين يبنون التاريخ على الأهواء والخيالات؟
وقع التشدد في مثل هذه الأمور في أيام الدولة العباسية؛ لبعد العهد بسذاجة الدَّور الأول، وميلِ هذه الدولة إلى مناحي الأعاجم، وفُشُوِّ الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية في دار السلام، مما أخافَ الخلفاء ووزراءَهم على العقيدة الدينية، وحَفَزهم على الاحتياط لعدم انحلالها، وهذا أشبه بما كان في أوربة في القرون الوسطى، لا بل في القرون الأخيرة، لا بل بما لا تزال بقاياه إلى هذه الآونة.
وبرغم ما كان من هذا الاحتياط في أيام العباسيين، ومَنْ في عصرهم من ملوكِ الإسلام فقد كان الناس يروون أهاجيهم، ومثالبهم، ويتناشدون المطاعن الفاحشة في أعراضهم حتى في مجالس أقرب الناس إليهم.
وقد شاعت أقاويل التعطيل والإلحاد في هاتيكَ الأيام برغم الضبط والمراقبة، ودُوِّنتْ أقوال الملحدين والدهريين.
ورُويتْ أشعارُ المعرِّي ومن في سبيله حتى ما يخالف الدين الإسلامي مثل قوله:
وقوم أتوا من أقاصي البلاد *** لرمي الجمارِ ولثمِ الحجر
وكثير غير هذا من أقواله، ورسالة الغفران وصلتْ إلينا، ولولا أنها تُدوِّلت بالنسخ من قراب ألف سنة ما وصلتْ إلينا، ولو كان هناك سانسور ما أبقى على رسالة الغفران.
وتجادل نصراني في الدين مع أحد بني العباس، ونال النصراني من العقيدة الإسلامية، وبلغَ المأمون ذلك فقال ما معناه، ما كان أغنى ابن عمِّنا عن تعريض دينه للطعن!.
ولا أنفي مع ذلك أنَّ الدولة الإسلامية في القرون التالية كانت تحجر أحياناً على الفلسفة التي يُراد منها التعطيلُ أو الإلحاد، ويُسمونها الزندقة.
فأما إزالة شعر النصارى أو اليهود أو المشركين، ومنع روايته فشيء لم يقع لا في زمن الصحابة، ولا في أيام بني أمية ولا أيام بني العباس.
فيا إخواننا إنَّ التاريخ لا يكون بالظن، وإنَّ الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً، وهذا نتفٌ من كثير، ووشل من بحر؛ ولو كانت بيدينا الآن كتب لأحلناكم على شواهد لا تنتهي، فإن كنتم مع هذا تُصرُّون على المخالفة؛ لأجل المخالفة فليس هذا مما يزيد الثقة بعلمكم، بل هو مما يُنقصها، وبدلاً من أن يضعَ العلم على قواعد اليقين يضعه على قواعد أوهى من بيت العنكبوت.
___________
[1] كتبها الأمير شكيب في روما في 8 مارس سنة 1926م، وهي في كتاب: تحت راية القرآن المعركة بين القديم والجديد للرافعي، ضبطها وصححها محمد سعيد العريان ص8796.
[2] يشير الأمير إلى طه حسين.
[3] كأنها كلمة فرنسية، ولعل معناها: الغطاء، أو الساتر أو الرقابة، كما يفهم من سياق الكلام. (م)
[4] يشير إلى مقالة الأستاذ عباس فضلي.
[5] هكذا في الأصل، ولعلها: يرددون. (م)
6- كتبها الأمير في سنة 1926، وقد توفي شوقي سنة 1932.
[7] كان ينشد الشعر فلا يقيم وزنه؛ وقد بينا حكمة ذلك في كتابنا =إعجاز القرآن والبلاغة النبوية+ ولكنه يستنشد الشعر كثيراً (الرافعي).