شاطر | 
 

 تفسير سورة الفجر

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
معلومات العضو
zizou

zizou



معلومات إضافية
الجنس : ذكر
عدد المساهمات عدد المساهمات : 131
نقاط نقاط : 231
السٌّمعَة السٌّمعَة : 2
تاريخ الميلاد : 15/06/1990
تاريخ التسجيل : 10/07/2013
معلومات الاتصال
http://www.darisni.com
مُساهمةموضوع: تفسير سورة الفجر   تفسير سورة الفجر Calend10السبت 31 أغسطس 2013 - 10:15




تفسير سورة الفجر

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾1

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه سيدنا محمد وأهله وصحبه أجمعين.

هذه سورة الفجر، أقسم الله -جل وعلا- فيها بالفجر، وهو الصبح كما قال الله -جل وعلا- في آية أخرى: ﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾2 وقوله -جل وعلا-: ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾3 جمهور أهل التفسير أجمع على أن المراد بها ليالي الأيام العشر من ذي الحجة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله -تعالى- من هذه الأيام »4 وفي الفجر عرَّفه الله -جل وعلا- بالألف واللام، وأما الليالي العشر، فنكرها رب العالمين؛ قد ذكر بعض العلماء أن الله -جل وعلا- عرف الفجر؛ لأن كلا يدركه لوضوحه وظهوره، وأما الليالي العشر، فنكرها الله -جل وعلا-؛ لأنه لا سبيل إلى معرفتها إلا عن طريق الشرع.

ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾5 الشفع والوتر: اختلف العلماء في بيانهما حتى بلغت أقوالهم قريبا لستة وثلاثين قولا، لكن هذه الأقوال يجمعها أمران، أو هذه الأقوال ترد إلى أمرين: أحدهما أن المراد بالشفع المخلوقات والمأمورات على اختلاف بين العلماء في تحديد هذه المخلوقات، أو هذه المأمورات، فمنهم مَن يقول: الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة، ومنهم من يقول: الوتر عرفة المكان، والشفع مِنَى ومزدلفة، إلى غيرها من الأقوال التي تعود إلى المخلوقات والمأمورات. والثاني: أن المراد بالشفع المخلوقون، وبالوتر: الخالق رب العالمين؛ لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ﴾6 فالمخلوقات كل واحد منها له زوجان، والشفع هو الزوج، فدل ذلك على أن المراد المخلوقات، وأما الوتر، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر »7 .

ولكن، أو قبل ذلك ورد حديثٌ، حديثُ جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسر الليالي العشر بليالي ذي الحجة، وأن الشفع هو يوم النحر، وأن الوتر هو يوم عرفة، وهذا الحديث استنكر الحافظ ابن كثير رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أورده الحافظ ابن حجر في الفتح، وسكت عليه، وهذا الحديث الذي يظهر كرجاله لا بأس بهم، كما قال ابن كثير، أما أن أحد رجاله يظهر أنه لا يحتمل أن يروي مثل هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسير هذه السورة، أو في تفسير هذه الآيات لا سيما مع اختلاف أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيانها.

فلو كان عندهم شيء من هذا المرفوع لم يخف على جملة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس خفاؤه هو الذي يمنع من تصحيح الحديث، ولكن أحد رجاله ليس من الثقاة المعروفين الكبار، ومثل تفرده هذا يحتاج إلى نظر؛ ولهذا الحافظ ابن كثير استنكر رفعه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم.

وعليه فما اختاره الإمام ابن جرير -رحمه الله- من أن المراد بالشفع والوتر في هذه الآية ما يصح أن يطلق عليه ذلك في لغة العرب، ولغة العرب تطلق الشفع على الزوج، يعني: على الشيء المزدوج، وتطلق الوتر على الشيء الواحد، فالذي له زوج، أو مقارن هذا هو الشفع، والذي ليس له، هذا هو الوتر، والله -تعالى- أعلم.

ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسرِ ﴾8 يعني: والليل إذا يمضي، وهذا كقول الله -جل وعلا-: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴾9 ثم قال -جل وعلا-: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾10 .

بعض العلماء يقول: إن هذا جواب القسم، ولكن هذا قول ضعفه العلماء، واختلفوا في جواب القسم هاهنا، والذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن الله -جل وعلا- أراد هنا ما أقسم به لا ما أقسم عليه؛ لأن الله -جل وعلا- أراد لفت انتباه الناس وبيان عظمة خلقه في هذه الأشياء التي أقسم بها؛ ولهذا لم يأت بالمقسم عليه؛ لأن القسم -أحيانا- يراد به المقسم عليه، وأحيانا يراد القسم فقط فالله -جل وعلا- في هذه الآيات… استظهر الحافظ ابن القيم أنه إنما أراد المقسم به، وهو الفجر والليالي العشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر؛ ولهذا حذف جواب القسم.

وقوله -جل وعلا-: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾10 الحجر هو العقل سمي بذلك؛ لأنه يمنع الإنسان عما لا يليق به، ومعنى هذه الآية هل في ما ذكر من الفجر، وما بعده قسم كاف يستغني به ذوو العقول؟ وجوابه: نعم، في هذا كفاية وعبرة؛ لأن هذا المقسم به، وهو هذه المخلوقات آيات عظام من آيات الله، جل وعلا.

ثم قال -جل وعلا-: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾11 هذا فيه بيان لما أحله الله -جل وعلا- لقوم عاد، وقد قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ﴾12 فإرم هذا بيان لعاد، وعاد إرم هذه هي عاد الأولى، التي قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ﴾13 فعاد الأولى، وهناك عاد الأخرى، أو عاد الثانية، وعاد الثانية هذه بعد بناء الكعبة، وأما عاد الأولى فهم قوم هود، وهود بعث بعد نبي الله -جل وعلا- نوح، بعد إغراق قوم نوح بالطوفان، بعث الله -جل وعلا- هودا -عليه السلام- إلى عاد، وعاد هذه قبيلة جدهم عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، هذه القبيلة تنسب إلى عاد، وكانت مساكنهم ممتدة في جبال الرمال من حضرموت إلى عُمَان وما حولها، وقد جعل الله -جل وعلا- فيهم من القوة في أجسادهم، ومن الحذق في صناعاتهم، ومن الخيرات في بلادهم ما كانوا به في زروعهم أخصب الناس في زمانهم، وديارهم تسمى الأحقاف كما قال -جل وعلا-: ﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ ﴾14 .

وبين الله -جل وعلا- ما هم عليه من القوة في قوله -سبحانه-: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ ﴾15 وقال -جل وعلا- حكاية عن هود -عليه السلام- أنه قال لهم: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾16 بكل ريع، يعني: بكل مكان مرتفع، يبنون آية، يعني: يبنون بنيانا شاهقا ﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾17 المصانع: هذه أمكنة تبنى تجمع فيها المياه، وكانت معروفة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾18 وهذا من قوتهم ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾19 .

فهذه حالهم لما بعث الله - جل وعلا - إليهم نبيه هودا -عليه السلام- بعث الله -جل وعلا- لهم هودا يدعوهم إلى توحيد الله -جل وعلا-، وإلى عبادته كما أخبر الله -تعالى- في مواضع كثيرة من كتابه كما قال -تعالى-: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾20 وقال -جل وعلا- في آية هود: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾21 .

فكذبوا هودا -عليه السلام- وأنكروا ألوهية الله -جل وعلا- واستهزءوا بهود -عليه السلام- واستبعدوا أن يحل بهم عذاب الله -جل وعلا- كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في قوله: ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾22 وفي قوله -جل وعلا-: ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾23 وفي قوله -تعالى- ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾24 وفي قوله -تعالى-: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾25 فلما كذبوه، وعصوه أنزل الله -جل وعلا- عليهم عذابه وبطشه.

أرسل الله -جل وعلا- عليهم ريحا باردة تتابعت عليهم سبع ليال وثمانية أيام، حتى أصبحوا كأنهم أعجاز نخل خاوية، أي: كأنهم جذوع نخل ليس عليها رءوسها؛ لأن المفسرين ذكروا أن الله -جل وعلا- لما أرسل عليهم هذه الريح الشديدة الباردة، صارت تحمل الرجل منهم، فتلقيه على رأسه حتى ينشدخ رأسه، قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾26 وقال -جل وعلا-: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾27 .

وقال -جل وعلا- مبينا مردهم في الآخرة: ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾28 .

وأما ثمود فهم قوم صالح كانوا يسكنون بوادي القرى، وهو مكان بين تبوك والحجاز، وهذا الوادي سُمِّي وادي القرى؛ لأن الوادي كان متصلا بالقرى، القرية بجانب أختها، وكانت ثمود تسكن هذا الوادي، وثمود هذا هو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، أرسل الله -جل وعلا- إلى قومه نبيه صالح -عليه السلام- وقومه قوم صالح -عليه السلام- الذين هم ثمود، ذكر الله -جل وعلا- أوصافهم في قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾29 يعني: يشقون الجبال بحذق، وفي قوله -جل وعلا-: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ﴾30 فكانوا ينحتون هذه الجبال، ويجعلونها بيوتا كما أنهم كانوا ينشئون لهم قصورا في تلك السهول، وهي الأودية، ونحتهم لهذه الجبال يدل على قوتهم وعظم ما هم فيه من الحرفة والصناعة، ومع ذلك كانوا يعيشون آمنين، كما قال -تعالى- في الآية الأخرى: ﴿ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ﴾31 يعني: ليس عندهم خوف.

فلما كانوا كذلك، وكانوا مشركين بالله -جل وعلا- بعث الله -جل وعلا- إليهم نبيه صالح -عليه السلام- بعد هود، يدعوهم إلى توحيد الله -تعالى- كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾32 ولكن هم كفروا به، وبما بعث به وكفروا بألوهية الله -جل وعلا- وسخروا من صالح ومن آمن معه كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في مواضع:

﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾33 وقال -جل وعلا-: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ﴾34 كذبوا نبي الله -جل وعلا- صالحا -عليه السلام- فلما كان يدعوهم، وجاء في ناديهم سألوه أن يخرج لهم آية.

فذكر المفسرون أنه -عليه السلام- لما طلبوا منه الآية، وهي أن يخرج لهم ناقة من هذه الصخرة، صلى لله -جل وعلا- ثم دعاه فخرجت ناقة على الوصف الذي أرادوا من هذه الصخرة، ولكنهم، أو كثيرا منهم كفر، وقليل من آمن؛ ولهذا قال الله -جل وعلا- في شأنهم: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾35 لأن هذه آية ومعجزة باهرة عظيمة، ومع ذلك عرفوا الحق، فأعرضوا عنه.

فلما خرجت هذه الناقة أمرهم صالح -عليه السلام- أن يتركوها ترعى، واتفق معهم على أن تشرب من البئر يوما، وهم يشربون يوما، فلما مضت الأيام والأوقات ضاقوا بهذه الناقة ذرعا، فقتلوها وقتلها زعيمهم وشريفهم كما ثبت ذلك في الصحيح، قد قال المؤرخون: إن الذي قتلها قدار بن سالف، قتل هذه الناقة، فلما قتلها أخرهم صالح العذاب ثلاثة أيام، ووعدهم بالعذاب أنه ينزل عليهم بعد ثلاثة أيام، فلما توعدهم بالعذاب اجتمعوا على قتله -عليه السلام- اجتمع تسعة منهم على قتله، فأرادوا قتله كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم: ﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾36 فأخذهم الله -جل وعلا- قبل أن يقتلوا نبيه صالح، عليه السلام.

وفي هذا قال -تعالى-: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾37 فلما عاجلهم العذاب، وقتلوا هؤلاء التسعة أيقن قوم صالح أنهم مهلكون، وأن ما وعدهم به سيحل عليهم.

ذكر المؤرخون والمفسرون أن أول يوم من هذه الأيام الثلاثة كان يوم الخميس، فاصفرت وجوههم، ثم لما جاء اليوم الثاني، وهو يوم الجمعة احمرت وجوههم، فلما جاء اليوم الثالث، وهو يوم السبت اسودت وجوههم، فلما جاء الصبح من يوم الأحد جاءهم وعد الله -جل وعلا- الذي وعده على لسان صالح الذي قال لهم: ﴿ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾38 .

فأخذهم العذاب مصبحين، لما جاء الصبح صاحت الصيحة من السماء، ورجفت الأرض، فأهلكهم الله -جل وعلا- قال الله -جل وعلا-: ﴿ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ﴾39 هذا إهلاك الله -جل وعلا- لثمود.

يعذب الناس بها بمعنى أنه كان يمدهم على هذه الأوتاد، ويسومهم سوء العذاب، وعلى كلٍ، هذه صفة ذم له: لفرعون، أو أن هذه صفة تكشف حقيقته وحاله، ثم قال -جل وعلا- في وصف الجميع: ﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾40 يعني: أن ثمود الذين جابوا الصخر بالواد: قطعوا الصخر بالواد، أو عاد، أو فرعون هؤلاء كلهم طغوا في البلاد ﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾41 يعني نشروا الفساد، سواء في أنفسهم، أو في غيرهم، فأصبح هذا الفساد منتشرًا ظاهرًا.

قال الله -جل وعلا-: ﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾42 يعني: أن الله -جل وعلا- أنزل عليهم عذابًا من عنده، فعذبهم به في الدنيا قبل الآخرة، وقوله -جل وعلا- في هذه الآية: ﴿ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾42 قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- هاهنا قال: ﴿ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾42 ليبين أن عذابهم الذي عذبهم به في الدنيا مع شدته، فإنه كالسوط بالنسبة لعذاب الآخرة، وقال بعض العلماء: إن قوله هاهنا: ﴿ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾42 أن الله -جل وعلا- أخذهم بعذاب شديد؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يعذب أحدًا في الدنيا، فأعلى ما يعذبه به: بضربه بالسياط؛ لأن بالسيف يقتله، ولكن إذا أراد العذاب المؤلم، فإنه يكون بالسياط.

ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الخوارج: « لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد »43 قال بعض العلماء: إن قوله -صلى الله عليه وسلم-: « لأقتلنهم قتل عاد »44 يعني: قتلًا شديدًا، فهو يفسر قوله -جل وعلا-: ﴿ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾42 وقال بعضهم: إن المراد بقوله -عليه الصلاة والسلام-: « لأقتلنهم قتل عاد »44 أي: لأقتلنهم قتلًا آتي فيه على جميعهم لا أترك منهم أحدًا، كما أن الله -جل وعلا- لم يترك من عاد أحدًا.

ثم قال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾45 قال ابن عباس -رضي الله عنه- يعني: يسمع، ويرى.

والمراد أن الله -جل وعلا- مطَّلع عليهم، يطلع على الخلق، ويعلم ما يقولون، ويبصر ما يفعلون، فهو -جل وعلا- راصدٌ لحركاتهم وسكناتهم، وأقوالهم، وأفعالهم، ويرصدهم -جل وعلا- حال إسرارهم وحال علانيتهم.

وهذه الآيات التي تقدمت، فيها تخويف لمن يعصي الله -جل وعلا- لأن المعصية تورث نقمة الله -جل وعلا- وقد يعاجل العبد بالعقوبة في الدنيا كما أن هذه الآيات فيها طمأنة للمؤمنين بأن أعداء الله -جل وعلا- مهما طغوا وبغوا، فإن الله -تعالى- لهم بالمرصاد، وأنهم مهما ملكوا من القوات فالله -جل وعلا- أقوى منهم.

قوم عاد كانوا على قوة عظيمة حتى افتخروا بها ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾46 وهؤلاء المذكرون من ثمود وفرعون وعاد كان لهم مال ورياسة وجاه وسلطان، ولكن ذلك لم يغن عنهم من عذاب الله -تعالى- شيئًا؛ لأن الله -جل وعلا- على كل شيء قدير.

ثم إن هذه الآيات فيها لفت لانتباه العباد؛ لئلا يغتروا بما أُتوا، فالعبد مهما أوتيَ من شيء، فهو ضعيف، ومهما صنع فهو ضعيف، ومهما اخترع فهو ضعيف، وهذا كله يدل على أن المؤمن إذا كان عنده شيء من المخترعات، أو رأى هذه الاختراعات ألا يغتر بها، وألا يطغى بها، وألا تقوده هذه المخترعات، وهذه القوى إلى معصية الله -جل وعلا- وألا يهاب من أعداء الله؛ لأنهم يمتلكون هذه المخترعات، والإنسان الذي يرى هذه المخترعات في هذا العصر قد يغتر بها، يظن أن أهلها على حق، أو أنهم منصورون أبدًا، أو أنهم لا غالب لهم، وكل هذا خطأ، فهذه الوسائل سواء كانت وسائل عسكرية، أو ترفيهية، أو حاجية، أو وسائل مواصلات، أو غيرها من الوسائل لا بد للمسلم أن يعرف موقفه منها؛ حتى لا يغتر بها؛ وحتى يتعامل معها على وفق شرع الله جل وعلا.

فالمؤمن إذا نظر إلى هذه المخترعات لا تزيده إلا إيمانًا بالله -تعالى- وحده؛ لأن الله -جل وعلا- أخبرنا بوجود هذه المخترعات قبل أن توجد، فقد أنزل على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾47 ثم إن هذه المخترعات تزيدنا إيمانًا بالله -جل وعلا- لأن نظر المؤمن ليس قاصرًا على المخترع، لكن يفكر في العقل الذي اخترع هذا، فإذا فكر في العقل بعد ذلك ينظر إلى خالق هذا العقل، فلولا الله -جل وعلا- ما استطاع العقل أن يخلق هذه الأشياء، إذا هذه مردها إلى الله -جل وعلا-: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾48 ثم إن المؤمن إذا رأى مثل هذه المخترعات يقارنها بخلق الله -جل وعلا- الذي صنعه الله -جل وعلا- إذا بهرته هذه الدقة في بعض الأنظمة، فلينظر إلى الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار تمشي بدقة متناهية، وإذا رأى هذا البنيان الشاهق، فلينظر إلى الجبال، وإذا رأى الطائرات، فلينظر إلى الطيور ﴿ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ﴾49 ثم إن المؤمن يأخذ من هذه المخترعات ما أباحه الله -جل وعلا- منها، لا يغالي فيها ولا يفرط، بل يأخذ منها بقدر حاجته مما أباحه الله؛ لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾50 ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾51 .

ثم إن هذه الوسائل ينبغي أن تستغل في نفع المسلمين وفي الدعوة إلى الإسلام، فوسائل المواصلات الآن والاتصالات، قد يستعملها بعض المسلمين فيما يضر المسلمين، أو فيما لا يعود عليهم بالنفع، وهذا غلط، فالمفترض في مثل هذه الأشياء أن تستغل في الدعوة إلى الله، ونشر الإسلام.

الآن بعض الناس يشغل نفسه في الحاسب، ويذكر عادات بلده، أو عادات قومه، أو يذكر بعض الفكاهات وغيرها مما تضر ولا تنفع، أو على الأقل لا تنفع مع أن المسلمين بحاجة إلى مثل هذه الأشياء؛ لدعوة غيرهم إلى الله -جل وعلا- ثم إن هذه المخترعات ينبغي، أو يجب ألا تحدث في قلب المسلم خضوعًا للكفار، ولا اعتقادًا لعزتهم ولا ذلا لهم، بل هذه الأشياء لا تزيد المؤمن إلا إيمانًا بالله، وعزة بدين الإسلام، وليعلم أن الله -جل وعلا- ناصر دينه كما قال -تعالى- ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾52 وقال -تعالى-: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾53 ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾54 .

فالله -جل وعلا- أمرنا بأن نعد قوة، ولو كانت هذه القوة يسيرة، لكن قوة لا نستطيل+ عليها، وبعد ذلك لسنا مكلفين أن يكون عندنا ما عند غيرنا، ولكن علينا أن نعد، وأن نجتهد في العدة، فإذا فعلنا ذلك نصرنا الله -جل وعلا- وعدًا منه، والله -جل وعلا- لا يخلف الميعاد.

الشاهد أن مثل هذه المخترعات، وهذه القوى ينبغي للمسلم أن يعتبر بأحوال الأمم السابقة، وما كانوا عليه من القوة، وقد أهلكهم الله -جل وعلا- مع قوَّتهم، ونصر عليهم المؤمنين مع ضعفهم ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾55 كما أن هذه الآيات فيها بيان لشؤم المعصية، المعصية لها شؤم: تحدث الفساد في البر وفي البحر وفي الأنفس، تحدث الضيق في النفس تحدث على العبد تنغيصًا في معاشه قبل معاده؛ ولهذا قال الله -جل وعلا-: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾56 .

ثم قال الله -جل وعلا -: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي ﴾57 هذه طبيعة الإنسان، إذا جاءه خير قال: هذا من إكرام الله لي، وإذا قدر عليه رزقه وضيق عليه فيه، قال: إن الله أهانني، ولكن يستثنى من ذلك المؤمنون؛ لأن المؤمن يعلم أن الإكرام والتضييق بالرزق ليس دليلًا على محبة الله، كما أنه ليس دليلًا على غضب الله، فقد يُنعم الله -جل وعلا- على العبد، وهو يبغضه، ولكن يصنع ذلك به استدراجا ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾58 وقد يضيق عليه رزقه، وهو يحبه -جل وعلا- نبينا -صلى الله عليه وسلم-: « مات ودرعه مرهونة في صاع شعير »59 وهو أحب الخلق، وأكرمهم على الله -جل وعلا- ولهذا كان من صفة الكفار أنهم إذا أعطوا شيئًا زعموا أن ذلك دليل على رضا الله عنهم، كما قال -تعالى-: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ ﴾60 وقال -تعالى-: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ﴾61 وقال -جل وعلا-: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾62 .

وقال -جل وعلا- في شأن صاحب الجنة: ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾63 لأنه يزعم أن الله -جل وعلا- لما أعطاه، فإنه قد رضي عنه، وهذا فهم خاطئ، لا ينبغي للمسلم أن يعتقده، بل المسلم يعتقد أن تضييق الله -تعالى- عليه في رزقه، أو توسيع الله -تعالى- عليه رزقه، إنما هو ابتلاء وامتحان؛ لينظر -جل وعلا- كيف يعمل عبده أيشكر أم يكفر؟ كما قال الله -جل وعلا- عن نبيه سليمان أنه قال: ﴿ لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾64 والله -جل وعلا- يقول: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾65 فهذه الهبات، أو العطايا لا تدل على الرضا كما أنها لا تدل على المحبة؛ ولهذا لا ينبغي للمسلم إذا منحه الله -جل وعلا- شيئًا أن يظن أن ذلك من رضا الله عليه، كما لا ينبغي له إذا لحقته مصائب أن يظن أن ذلك -قطعًا- من سخط الله عليه، ولكن عليه أن يفتش عن نفسه؛ لينظر هل أطاع ربه أم عصاه، فإذا فتش وعالج نفسه ما يقع بعد ذلك من سعة في الرزق، أو تقتير، فهذا لا ضرر على العبد فيه؛ لأن الشؤم إنما هو شؤم المعصية، وليس لسعة الرزق، أو ضيقها على العبد في أمر آخرته شيء؛ لأن الله -جل وعلا- يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه -جل وعلا- لا يعطي الآخرة إلا من يحب.

ثم قال -جل وعلا-: ﴿ كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾66 يعني أنهم لا يكرمون اليتيم، مع أن هذا اليتيم قد فقد أباه، وهو بحاجة إلى أن يرأف به، ويحني عليه، وهو من أولى الناس أن يُرحم؛ لأنه لا يجد عائلًا له، وهو قد فقد حنان الأبوة، فهو بحاجة إلى إكرام؛ ولهذا جاء في شرعنا المطهر ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾67 .

وحرم الله -جل وعلا- أن يعتدى على هذا اليتيم في ماله ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾68 ويقول -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾69 ولهذا كان الواجب على والي اليتيم أن يراعي هذا اليتيم في ماله، وألا يدفع إليه ماله إلا إذا بلغ الرشد، وأن يتجر في هذا المال، ولا يتركه حتى تأكله الصدقات، بل يجب عليه أن يرعى هذا المال، وأن يجتهد في رعايته وحفظه حتى يدفعه إليه بعد رشده.

وقوله -جل وعلا-: ﴿ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾70 أي لا يحض بعضكم بعضًا على طعام المسكين، ولا يحث بعضكم بعضًا غيره على إطعام المساكين، ولا تتآمرون بذلك، فدل ذلك أنه ينبغي للمسلم، أو ينبغي للمسلمين أن يتآمروا فيما بينهم لإطعام المساكين، فإذا رأى المسلم أخاه، ورأى مسكينًا فينبغي له أن يحثه، ويحضه على إطعامه؛ لأن الله -جل وعلا- ذم على ترك التحاض، ما ذم ترك الإطعام، ذم على ترك التحاض، فمن باب أولى أن يذم على ترك الإطعام.

ولهذا: لعظم شأن المسكين واليتيم جعل الله -جل وعلا- أو لعظم شأن المسكين جعل الله -جل وعلا- إطعامه من البر ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾71 إلى أن قال: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾71 إلى آخر الآيات، ثم قال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾71 فدل على أن إطعام المسكين والقيام على اليتيم، هذا من البر ومن الصدق في الإيمان والتقوى.

ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ﴾72 التراث: المراد به الميراث، وكان الكفار يأكلون ميراث المرأة والصغير، الصغير الذي لا يحمي الذمار، ولا يركب الخيل هذا يأكل وليه ورثه، أي: ميراثه، والمرأة يأكلون ميراثها، بل المرأة إذا توفيت، وهي ذات زوج، وتوفي زوجها، فإنها تورث من زوجها، هي ذاتها تكون موروثة كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم ذلك في سورة النساء، وهذا الذي قاله الله -جل وعلا- هاهنا: ﴿ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ﴾72 أي: تأكلون الميراث أكلًا شديدًا مشتملًا على جمع الميراث، وأخذه بتمامه، هذا بينه الله -جل وعلا- في سورة النساء: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ﴾73 .

قال -جل وعلا-: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾74 أي: أنهم يحبون المال حبًّا شديدًا، فهم يجمعون هذا المال ولا ينفقونه لا ينفقون على اليتيم ولا المسكين، ويجمعون المال، يجمعونه من حله ومن غير حله؛ لأنهم يغتصبون الميراث، وهذه الصفة -غالبًا- ما تكون في الإنسان إذا كان لا ينفق ما أوجب الله -تعالى- عليه، الغالب أنه يجمع المال جمعًا شديدًا، وكثيرًا ما يخالطه ما حرم الله -جل وعلا- عليه.

أما المؤمن فلا، المؤمن يجمع مالًا ينتفع به في خاصة نفسه، وينفع غيره، ويؤدي منه حقوق الله -جل وعلا- قال الله -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴾75 قَبْلَ ذَلِكَ ﴿ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ﴾76 يعني: النار ﴿ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾77 فاستثنى الله -جل وعلا- أهل الإيمان.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
معلومات العضو
toufik

toufik



معلومات إضافية
الجنس : ذكر
عدد المساهمات عدد المساهمات : 2119
نقاط نقاط : 2129
السٌّمعَة السٌّمعَة : 7
تاريخ الميلاد : 27/11/1999
تاريخ التسجيل : 03/08/2013
الموقع : algeria
معلومات الاتصال
http://www.darisni.com
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الفجر   تفسير سورة الفجر Calend10السبت 31 أغسطس 2013 - 17:12




تفسير سورة الفجر 94611998 تفسير سورة الفجر 3735064828 تفسير سورة الفجر 1626939104

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

تفسير سورة الفجر

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» تفسير سورة البينة
» تفسير سورة عبس
»  تفسير سورة الانفطار
»  تفسير سورة القدر
»  تفسير سورة الانشقاق

 KonuEtiketleri كلمات دليلية
تفسير سورة الفجر شبكة ادرسني , تفسير سورة الفجرعلى منتدانا , تفسير سورة الفجر منتديات درسني ,تفسير سورة الفجر ,تفسير سورة الفجر , تفسير سورة الفجر
 KonuLinki رابطالموضوع
 Konu BBCode BBCode
 KonuHTML Kodu HTMLcode
صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الدراسة - Al-dirassa Forum :: إسلاميــــــــــات :: الفقه و أصوله :: تفسير الآيات-

ملاحظة مهمة : نحن (شبكة درسني) لا ننسب أي موضوع لشبكتنا فمنتدانا يحتوي على مواضيع منقولة و مواضيع منقولة بتصرف