معلومات العضو
معلومات إضافية الجنس : عدد المساهمات : 131 نقاط : 231 السٌّمعَة : 2 تاريخ الميلاد : 15/06/1990 تاريخ التسجيل : 10/07/2013 معلومات الاتصال | موضوع: تفسير سورة عبس السبت 31 أغسطس 2013 - 10:01 | |
| تفسير سورة عبس
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ،بسم الله الرحمن الرحيم : ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴾1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الدرس السابق لما ذكرنا تسع آيات لنبي الله موسى، نبهنا أحد الإخوة أننا ما ذكرنا إلا ثمان فقط، التسع هي: العصا، واليد، والسنون، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والبحر؛ هذه تسع، وبعض العلماء يجعل بدل البحر الطور: الجبل؛ في قول الله -جل وعلا-: ﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ﴾2 ثم بعد ذلك هذه السورة عاتب الله -جل وعلا- فيها نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا العتاب من الله -جل وعلا- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - جاء؛ لأن مقام النبوة والرسالة مقام عظيم، يُبَلِّغُ فيه العبد ما أوحي إليه من ربه -جل وعلا-، فكان الله -جل وعلا- يسدد نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويرشده إلى ما هو الأولى في بعض القضايا التي قضى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما قال الله -جل وعلا- في سورة التوبة: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾3 وقال -جل وعلا- في الأنفال: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ﴾4 .
فهذا العتاب لا يُنقص من قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يؤثر على رسالته، ولا على بلاغه؛ لأن ما بلّغه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حق، وما وقع فيه من النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف الأولى نبهه الله -جل وعلا- عليه، فكانت هذه الشريعة كاملة بتكميل الله -جل وعلا-.
وصدر هذه الصورة نزل في شأن عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله تعالى عنه- وكان رجلا أعمى، وكان أسلم قديما، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترشده في أمر الدين، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منشغلا ببعض كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - واشتغل بدعوة أولئك، وهذا اجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -، وكان الأولى أن يصنع كما أمره ربه -جل وعلا- بعد ذلك.
وسبب نزول هذه الآية هذا مما أجمع عليه أهل التفسير، وقد ورد فيه حديثان: حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وهذا الحديث، الصحيح فيه أنه حديث مرسل، رواه الإمام مالك وغيره عن هشام بن عروة، عن عروة: أن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن أم مكتوم، ليس لعائشة فيه ذكر، والذي رواه بذكر عائشة: هو يحيى بن سعيد الأموي، لكنه أخطأ في ذلك، والصواب أن هذا حديث مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد صحح ذلك الإمام. . صحح إرساله الإمام الذهبي في "تلخيص المستدرك".
وورد حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- أيضا يشهد لهذا؛ وهو حديث ظاهر إسناده أنه صحيح، والعلم عند الله -جل وعلا-، وفي حديث أنس: أن عبد الله بن أم مكتوم كان يخاطب، أو يدعو أبي بن خلف، وأيا كان، فالله -جل وعلا- قد أبهم هذين الاسمين.
قوله -جل وعلا-: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾5 يعني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه عبد الله بن أم مكتوم قطّب بوجهه وكلحه، وهذا إشارة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرتض قدوم عبد الله بن أم مكتوم عليه؛ لأنه كاد يقطع حديثه مع أولئك الكفار.
وقوله: ﴿ وَتَوَلَّى ﴾5 أي: أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله تعالى عنه-.
وقوله: ﴿ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾6 أي: لأجل أن جاءه الأعمى، وعبد الله بن أم مكتوم كان رجلا أعمى، والله -جل وعلا- هاهنا ذكره باللقب، ولم يذكره بالاسم، فبعض العلماء قالوا: إن الله -جل وعلا- ذكره بهذه الصفة -صفة العمى-؛ ليستعطف القلوب عليه، قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن هذا الرجل لما يقال: إنه أعمى، فهو أجدر أن يرأف به وأن يرحمه، وبعض العلماء يقول: إنه ذكره بهذا اللقب -لقب العمى-؛ ليبين عذر عبد الله بن أم مكتوم لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتحدث مع رؤساء قريش، فكأنه يقول: إن عبد الله بن أم مكتوم قطع هذا الحديث؛ لكونه أعمى لا يرى.
ويظهر -والله أعلم- أن الله -جل وعلا- ذكره بلفظ العمى، مع أن الكفار الذين كان - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم للإسلام كانوا مبصرين؛ ليبين -جل وعلا- أن العمى هو عمى القلوب، فهذا رجل أعمى في بصره، ولكنه مبصر ببصيرته، وأولئك مبصرون بأبصارهم، ولكنهم أعمون بقلوبهم، فيكون في ذلك عبرة للناس إلى يوم القيامة؛ كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾7 .
وبعض العلماء استشكل على قوله -جل وعلا-: ﴿ الْأَعْمَى ﴾6 آية الحجرات، وهي قول الله -جل وعلا-: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾8 فها هنا الله -جل وعلا- لقبه بأنه أعمى، وقد قال -تعالى-: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾8 ؛ ذكر ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتاب "دفع إيهام الافتراض" ثم وجه ذلك بما أجاب به بعض العلماء من أنه قال: ﴿ الْأَعْمَى ﴾6 ؛ ليقدم عذره في قطع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك التلقيب لا يؤذيه حينئذ؛ لأن -مثلا- الإنسان لما يقال: فلان أعرج، تأخر مثلا في إيصال المعاملات، وقال: فلان أعرج يعني: لا يؤاخذ، ولا يقصد ذمه ولا تلقيبه، وإنما يقصد بيان العذر الذي يجعله يتأخر، فهذه لا تحدث في نفس هذا الأعرج شيئا، وكذلك هذا الأعمى لما قدم الله -جل وعلا- عذره، فإن هذا التلقيب لا يحدث في نفسه شيئا.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الآيتين ليس بينهما تعارض أصلا؛ لاختلاف جهة القائل؛ فالقائل هنا والواصف هو الله رب العالمين، وله التصرف في خلقه، وأما في قوله -جل وعلا-: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾8 فهو نهي للخلق أن ينبز بعضهم بعضا؛ لأن العبد إذا نبذ أخاه بلقب فإن هذا يحدث من الضغينة والشقاق ما جعل الله -جل وعلا- يحرم النبز.
أما الله -جل وعلا- إذا أطلقه فهو الخالق المتصرف في المخلوقات، وله -جل وعلا- أن يسمي من شاء ما شاء، وأن يلقب من شاء ما شاء، فلاختلاف جهة الصدور في الآيتين فإنه ليس بينهما تعارض، ثم إن بعض العلماء -أيضا- ذكر: أن في هذه الآية ما يعارض قوله -تعالى-: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾9 وهنا عبس بوجهه، ويعارض -أيضا- قوله تعالى في سورة الشعراء: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾10 في سورة الحجر: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾11 والنبي - صلى الله عليه وسلم - هاهنا عبس بوجهه.
وهذه الآيات كلها آيات مكية سواء عبس، أو آية الشعراء، أو الحجر، أو آية القلم كلها آيات مكية، لا يُدرى ما المتقدم منها: فإما أن يكون ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾9 وما بعده، أو الآيات الأخرى ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾11 هذا واقع بعد سورة عبس، وحينئذ لا إشكال.
أو يقال: إن قوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾9 ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾11 هذا باق، وهذه الآية التي معنا هذه محل اجتهاد له - صلى الله عليه وسلم - اجتهد، وهذا لا يخرجه عن أن يكون ذا خلق عظيم، ولا يخرجه عن أن يكون خافضا جناحه للمؤمنين؛ لأنه يحتمل أنه -عليه الصلاة والسلام- رأى في هذا الصنيع تعليما لعبد الله بن أم مكتوم، كما كان - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يزجر بعض أصحابه، وهذا لا يخرجه عن أن يكون على خلق عظيم؛ لأن الخلق العظيم ليس معناه أن لا يعالج المرء الأمور بحسبها، فيحزم وقت الحزم، ويلين وقت اللين، ويرفق وقت الرفق.
هذا لا ينافي أن يكون على خلق عظيم، فالشاهد أن قوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾9 باق، وهو - صلى الله عليه وسلم - خافض جناحه للمؤمنين، وهذه القضية اجتهد فيها - صلى الله عليه وسلم -، ولعله رأى أن في هذا الصنيع منه -عليه الصلاة والسلام- والإعراض عن عبد الله بن أم مكتوم تعليما له؛ لئلا يقطع غيره، أو هو الحديث عليه - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى.
ثم بعد ذلك لا يكون هناك إشكال بين هذه الآيات.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾12 أي: وما يدريك يا محمد أن عبد الله بن أم مكتوم يزكى، ﴿ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾13 يعني: أنه يزكّى بحيث يحصل له كمال في الإيمان، وارتفاع عن الإثم، واتعاظ وعبرة وتذكر وخشية؛ لأنه إذا استرشد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرشده؛ فإما أن تكون هذه موعظة، فينزجر العبد عما كان واقعا فيه من محارم الله، أو مقصرا فيه من الواجبات، أو تكون هذه الموعظة، أو هذا التذكير رافعا للعبد عن الجهل؛ لأن العبد قد يقع في بعض الأخطاء جهلا منه، دون أن يعلم بالحكم الشرعي، فإذا أرشد إليه، وعمل به، وخاصة أنه جاء يسعى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على اتباع النبي -عليه الصلاة والسلام- والعمل بما يقول، فإن مثل هذا إذا ذكر ووعظ وعلم انتفع.
وقوله -جل وعلا- في هذه الآية: ﴿ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾12 الله -جل وعلا- ذكره بهذه الصيغة بلفظ لعل، وهذه تدل على الرجاء، والرجاء يكون في الشيء الممكن القريب المتوقع الحدوث، فكأن الله -جل وعلا- يقول: هذا تزكيته قريبة وممكنة، أما أولئك الكفار فيحتمل أن تزكيتهم بعيدة أو غير ممكنة، وأما ابن أم مكتوم فَتَزَكِّيه قريب وممكن.
وبعض العلماء يقول: لعل هذه من الله واجبة، لعل من الله واجبة، إذا قال: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾14 ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾15 ﴿ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾12 يعني: سيتزكى ويتحقق ذلك.
ليست مثلها مثل ما يقع في كلام البشر؛ لأنها تقع في كلام البشر للترجي والإشفاق، وأما في كلام الله فعند بعض العلماء هي موجبة، يعني: يتحقق ما بعدها، ﴿ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾12 ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾14 ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾15 إلى غيرها من الآيات هذه يكون ما بعدها متحقق في الوقوع، ولا بد.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ﴾16 ﴿ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ﴾17 ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴾18 … أعوذ بالله من الشيطان الرجيم !! ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ﴾16 لأ. ..
اصبر اصبر لعلي آتي بالآية!! هذه مما يذكر أن أحد القراء في المدينة العلماء الحفاظ - توفي هو - قرأ القرآن من أوله إلى آخره ما أخطأ حرفا إلا في سورة العصر؛ استعجمت عليه؛ وهذه آية من آيات الله.
﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ﴾16 ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴾18 يعني: إما أن يكون استغنى بثروته وماله، أو أنه استغنى عن اتباع الحق، وأعرض، وهو الظاهر؛ لأن الله -جل وعلا- قابله بالآخر ولم يقابله بالفقر والحقارة؛ لأن مقابله: ﴿ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى ﴾19 ما قال: أما من جاءك فقيرا، فدل على أن المراد ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴾18 يعني: استغنى عن الإيمان، وأعرض عنه، وهو أبي بن خلف، أو غيره ممن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الإسلام في تلك اللحظة التي جاء فيها عبد الله بن أم مكتوم.
وقوله: ﴿ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ﴾20 يعني أنت تصغي له، ولما يقول، وتسمع حديثه وتتعرض له؛ رجاء أن يسلم.
ثم قال -تعالى-: ﴿ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ﴾21 أي: أن وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي البلاغ، وأما تزكي الناس فهذا ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - شأن به؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - إذا بلغ فالقلوب بيد الله -جل وعلا-؛ من شاء هداه، ومن شاء أضله، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه البلاغ، كما قال -جل وعلا-: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾22 وقال -جل وعلا-: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾23 .
وكما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾24 إلى غيرها من الآيات التي تبين أن وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي البلاغ، وأما الهداية فهي إلى الله -جل وعلا-؛ ولهذا ﴿ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ﴾21 أي: ليس عليك شيء إذا لم يتزك.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - كما بين الله -جل وعلا- في آيات أخرى كان حريصا على هداية قومه، وكان يحزنه ويسوءه عدم إيمانهم، بل إنه -عليه الصلاة والسلام- كاد أن يهلك لما لم يجبه قومه إلى الإسلام من شدة حرصه - صلى الله عليه وسلم - عليهم وحزنه على صنيعهم، ولهذا نهاه الله -جل وعلا- فقال - سبحانه وتعالى- مبينا حاله: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾25 وقال -جل وعلا-: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾26 وقال له -جل وعلا-: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾27 وقال -جل وعلا- ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾11 وقال -تعالى-: ﴿ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾28 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾29 يعني: من جاءك يطلب الاسترشاد، ويطلب العلم والحكمة، ويطلب التذكر والخشية، فإنك تشتغل به وتتلهى عنه بأقوام آخرين. وهذه الآيات من الآيات التي ذكر العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآيات .
وقد نص على ذلك بعض السلف؛ لأن هذه الآيات فيها عتاب له - صلى الله عليه وسلم -، وهذه مثلها مثل قوله -جل وعلا- في سورة الأحزاب: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾30 تقول عائشة - رضي الله عنها -: لو كان النبي- صلى الله عليه وسلم - كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية .
ولهذا قال الله -جل وعلا- في سورة التكوير: ﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴾31 أي: ليس بمتهم على ما يبلغه، وهذه الآية -آية الأحزاب- الله -جل وعلا- أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه سيتزوج زينب، وكانت زينب تحت زيد بن حارثة مولاه، وكانوا يدعونه: ابن محمد؛ لأن التبني كان موجودا عندهم في الجاهلية، وقد حرمه الله -جل وعلا- لما أعلم الله -جل وعلا- نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يتزوج زينب، قضى الله -جل وعلا- في سابق علمه أن زيدا سيقضي وطره من زينب، وسيطلقها، فلما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره أنه يريد طلاقها، قال له - صلى الله عليه وسلم -، أمره أن يتقي الله، وأن يمسكها، فعاتبه الله -جل وعلا- على ذلك؛ لأن الله -جل وعلا- إنما أراد بهذه الآية، وزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب التي كانت تحت زيد بن حارثة، إنما يريد الله -جل وعلا- أن يبين حرمة التبني، وأن يبين أن زوجة مثل هؤلاء حلال؛ لأن زوجة الابن من الصلب ليست بحلال على والده، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾32 إلى أن قال: ﴿ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ﴾32 ولهذا قال الله -جل وعلا-: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾30 .
ثم قال الله -جل وعلا-: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴾33 يعني: إن هذه الآيات تذكرة يتذكر بها أولو الألباب، وعلى رأسهم نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فهو تذكير له، ولمن جاء بعده، وقد بيّن الله -جل وعلا- في آيات أخرى أن هذا القرآن تذكرة؛ كما في قوله -جل وعلا-: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾34 ﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾35 وقال -جل وعلا-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾36 وقال -جل وعلا-: ﴿ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾37 .
ثم قال -جل وعلا- ﴿ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴾38 أي: من شاء ذكر هذا الوحي المُنَزَّل على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فحفظه، أو من شاء تذكر بهذا الوحي، وبهذه الآيات التي أنزلها الله -جل وعلا- على نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها تعليم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعليم لمن جاء بعده من أمته.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ﴾39 أي: أن هذه الآيات في صحف مكرمة؛ وهي صحف الملائكة، ﴿ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ﴾40 أي: مرفوعة القدر عند الله -جل وعلا-، مطهرة من أن يكون فيها شيء ليس حقا ولا صدقا، بل هي حق وصدق؛ لأنها منزلة من عند الله -جل وعلا-. ﴿ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾41 وهم الملائكة، الذين هم سفراء بين الله وخلقه، أو سفراء بين الله ورسله؛ فهم يحملون هذه الصحف ويبلغون ما فيها من آيات إلى المرسلين ، ﴿ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾42 وهؤلاء الملائكة وصفهم الله -جل وعلا- بأنهم كرام يعني: كرام على الله -جل وعلا-، وكرام عند ربهم.
وقد وصفهم الله -جل وعلا- بذلك في آيات كثيرة كما قال -تعالى-: ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴾43 وقال -جل وعلا-: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ﴾44 وقال -جل وعلا-: ﴿ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ﴾45 .
فهم كرام بتكريم الله -جل وعلا- لهم، وقوله: ﴿ بَرَرَةٍ ﴾42 أي: المطيعين لله -جل وعلا-، لا يعصونه -جل وعلا-، بل يبادرون بامتثال أوامره، كما قال -تعالى-: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾46 وقال: ﴿ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾47 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾48 أي: لعن الإنسان ما أشد كفره، والمراد به الإنسان الكافر، فكلمة قتل معناها لعن، كما قال -تعالى-: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾49 أي: لعن، وقال -جل وعلا-: ﴿ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ﴾50 يعني: لعنوا، وقوله -جل وعلا-: ﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾51 يعني: لعنوا.
وهذه الآية، وهي أنهم كانوا شديدي الكفر، بينها الله -جل وعلا- في سورة الحج في قوله -تعالى-: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾52 وكلمة كفور هذه صيغة مبالغة تقتضي شدة الكفر، وهي مطابقة لهذه الآية؛ لأنه قال: ﴿ مَا أَكْفَرَهُ ﴾48 يعني: ما أشد كفره، والمراد به الإنسان الكافر .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾53 هذا استفهام تقريري؛ يقرر الله -جل وعلا- فيه الكفار، وقد أجاب الله -جل وعلا- عنه: ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾54 أي: خلقه الله -جل وعلا- من نطفة، والمراد بالنطفة: هو ماء الرجل.
وقد بيّن الله -جل وعلا- خلق الإنسان وفصّله في مواضع كثيرة من كتابه؛ قال الله -جل وعلا-: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾55 ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾56 ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾57 وقال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾58 وقال -تعالى-: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾59 .
فهذه الآيات دلت على خلق الإنسان؛ فأصله مخلوق من تراب وهو آدم عليه السلام، ثم بعد ذلك يتزاوج الذكر والأنثى، فيطأ الرجل المرأة فيخرج منه ماء، وهذا الماء وصفه الله -جل وعلا- بأنه ماء مهين أي: حقير، ثم بعد ذلك يستقر في رحم المرأة فيختلط مع مائها، وهو الذي قال الله -جل وعلا- فيه: ﴿ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ﴾57 يعني: أخلاط، ثم بعد ذلك يكون علقة، وهو الدم، ثم بعد ذلك يكون مضغة، وهو قطعة اللحم، ثم بعد ذلك يصور وتنفخ فيه الروح، ثم بعد ذلك يكسوه الله -جل وعلا- … يجعله عظاما، ثم يكسوه لحما.
هذا هو خلق الإنسان الذي بينه الله -جل وعلا- في كتابه، وفي هذه الآية قال: ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾54 فقدره: قال بعض العلماء فقدره أي: أنه -جل وعلا- لما خلقه، وكان جاء عليه مائة وعشرون يوما، بعث الله -جل وعلا- إليه الملك فنفخ فيه الروح، وأمره بكتابة أربع: عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، هذا هو التقدير، وبعض العلماء يقول: التقدير المراد به: إتمام الخلق؛ من إخراج اليد والرجل والعينين وغيرها، وكلها دل عليها كتاب الله -جل وعلا-.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾60 يعني أنه -جل وعلا- لما خلقه، وأتم خلقه، وأخرجه إلى هذه الحياة الدنيا يسره إلى أحد السبيلين: إما سبيل السعادة، وإما سبيل الشقاوة، وهو معنى قوله -جل وعلا-: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾61 وقوله: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾62 فالله -جل وعلا- بين له طريق الخير والشر، ولكن سبق في علمه -جل وعلا- أن أهل الشقاوة ييسرون إلى عمل أهل الشقاوة، وأن أهل السعادة ييسرون إلى عمل أهل السعادة.
ولهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لأصحابه: « ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار. قالوا: يا رسول الله: ففيم العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خُلق له »63 وفي بعض الروايات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « إن كان من أهل السعادة فسيصير إلى السعادة، وإن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى الشقاوة »64 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴾65 يعني: أن الله -جل وعلا- يميت العبد ثم يجعله ذا قبر يوارى فيه، وهذا من تكريم الله -جل وعلا- لبني آدم، وقد بين الله -جل وعلا- في آيات أخرى أنه يميت الخلائق، كما في قوله -تعالى- في سورة المؤمنون: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾66 وقال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾67 وقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾68 ثم بيّن. ..، وأما هذا القبر فقد بيّن الله -جل وعلا- في موضع آخر من كتابه بيّن الله -جل وعلا- منشأه وابتداء أمره في قصة ابني آدم في قوله -جل وعلا-: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾69 وذلك أن قابيل لما قتل هابيل، لا يدري قابيل أين يضع هابيل؟ حتى قال بعض العلماء: إنه كان يحمله طيلة عام كامل، فأراد الله -جل وعلا- أن يريه كيف يواري سوءة أخيه، فبعث الله -جل وعلا- غرابين يقتتلان، فقتل أحدهما الآخر، ثم بحث في الأرض، ووضع الغراب المقتول فيه ودفنه، فصنع ابن آدم -قابيل- مثل ما صنع الغراب؛ ولهذا قال: ﴿ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾69 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ﴾70 أي: أن الله -جل وعلا- متى شاء أعاد هذا الميت إلى الحياة مرة أخرى، وهذا بيد الله -جل وعلا- ومشيئته، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾71 وقال -جل وعلا-: ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾72 وقال الله -جل وعلا-: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾73 وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾74 .
ولهذا نفى الله -جل وعلا- في آيات أخرى أن أحدا غيره، حتى ممن يجعل آلهة، أنه يملك هذا النشور؛ كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾75 وقال -جل وعلا-: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ﴾76 يعني يبعثون الموتى، فدل ذلك على اختصاصه بالله -جل وعلا-، وهذا الاختصاص بالله -جل وعلا- أيضا مختص بأن علمه إليه، لا يدري عنه أحد من الخلق؛ كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾77 ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾78 إلى غيرها من الآيات التي تقدمت عند قوله -تعالى-: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴾77 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴾79 يعني: أن هذا الإنسان لم يقض ما أوجب الله -جل وعلا- عليه، وكل إنسان فإنه لا يقضي ما أوجب الله -جل وعلا- عليه تماما، لا بد وأن يقع في خلل وتقصير مهما بلغ من الحسن والكمال، إلا أنه لا بد أن يكون فيه شيء من الخلل؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته »80 فهذا الإنسان سواء كان كافرا أو مسلما فإنه لا يقضي ما أوجب الله -جل وعلا- عليه تماما. نعم. |
|
معلومات العضو
معلومات إضافية الجنس : عدد المساهمات : 2119 نقاط : 2129 السٌّمعَة : 7 تاريخ الميلاد : 27/11/1999 تاريخ التسجيل : 03/08/2013 الموقع : algeria معلومات الاتصال | موضوع: رد: تفسير سورة عبس السبت 31 أغسطس 2013 - 17:17 | |
| |
|