كلام أئمة الإسلام حول أحاديث الشفاعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه،
أما بعد: فإلى القراء الكرام أسوق في الشفاعة كلام أئمة الإسلام، وكلامهم ومذهبهم شافٍ -إن شاء الله- لصدور المؤمنين الصادقين، وغيظ لقلوب الخوارج المارقين ومن سار على نهجهم من الضالين.
أولاً: الإمام أحمد -رحمه الله-.
1- قال الإمام أحمد رحمه الله في أصول السنة (ص64) مع الشرح:
"وَالْإِيمَان بشفاعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبقوم يخرجُون من النَّار بَعْدَمَا احترقوا وصاروا فحمًا فَيُؤْمَر بهم([1]) إِلَى نهر على بَاب الْجنَّة كَمَا جَاءَ الْأَثر كَيفَ شَاءَ وكما شَاءَ إِنَّمَا هُوَ الْإِيمَان بِهِ والتصديق بِهِ".
2-وقال حَنْبَل: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ: مَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ؟ فَقَالَ: " هَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ نُؤْمِنُ بِهَا وَنُقِرُّ، وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ نُؤْمِنُ بِهَا وَنُقِرُّ، قُلْتُ لَهُ: وَقَوْمٌ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِذَا لَمْ نُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَدَفَعْنَاهُ رَدَدْنَا عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] قُلْتُ: وَالشَّفَاعَةُ؟ قَالَ: كَمْ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ، فَهَؤُلَاءِ يُكَذِّبُونَ بِهَا وَيَتَكَلَّمُونَ، وَهُوَ قَوْلُ صِنْفٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ أَحَدًا بَعْدَ إِذْ أَدْخَلَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَدَلَ عَنَّا مَا ابْتَلَاهُمْ بِهِ". "شرح أصول الاعتقاد" للالكائي (6/1111) رقم (2090).
قال الخلال رحمه الله في "السنة":
1177 – قال أبو بكر المروذي: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُؤَخِّرَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وقال -رحمه الله- كما في "السنة" للخلال (1/367):
نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَمَنْ شَكَّ فَلْيَقْرَأْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] الْآيَةَ.
وقال الخلال رحمه الله في "السنة":
1178 - قال المروذي: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثنا عَفَّانُ، قَالَ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ فَيُرْعَبُ الْعَدُوُّ وَهُوَ مِنِّي عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَقِيلَ: سَلْ تُعْطَهْ، وَاخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، وَهِيَ نَائِلَةٌ مِنْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا".
وقال الخلال في "السنة":
1181 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي فَلَيْتٌ الْعَامِرِيُّ، عَنْ جَسْرَةَ الْعَامِرِيَّةِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بِهَا: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَازِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ بِهَا؟ قَالَ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّيَ الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي، فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا».
1182 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَا: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي» قَالَ يَعْلَى: «شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا».
أخرجه مسلم في "صحيحه" حديث (199)، والإمام أحمد في "مسنده" (2/381).
وقال عبد الله: حَدَّثَنِي أَبِي، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَمَنْ شَكَّ فَلْيَقْرَأْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] الْآيَةَ، "السنة" لعبد الله بن أحمد (1/367-368) رقم (794).
وقال الخلال في "السنة" (2/149) رقم (1581):
"قال أبو بكر المروذي: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَلْمَانَ الْعَصَرِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ صُهْبَانَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا بَكَرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : (يُحْمَلُ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , فَتَقَادَعُ بِهِمْ جَنَبَتَا الصِّرَاطِ تَقَادُعَ الْفِرَاشِ فِي النَّارِ , فَيُنَجِّي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ . قَالَ : ثُمَّ يُؤْذَنُ لِلْمَلاَئِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ , عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ , أَنْ يَشْفَعُوا , فَيَشْفَعُونَ وَيُخْرِجُونَ , وَيَشْفَعُونَ وَيُخْرِجُونَ , وَيَشْفَعُونَ وَيُخْرِجُونَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً مِنْ إِيمَانٍ).
وقال الخلال: قال المروذي: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ , قَالَ : حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُعَيْقِبٍ , عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ الْعُتْوَارِيِّ أَحَدِ بَنِي لَيْثٍ , وَكَانَ فِي حَجْرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ , قَالَ : شَهِدْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (يَشْفَعُ الأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصًا , لِيُخْرِجُوهُمْ مِنْهَا , ثُمَّ يَتَحَنَّنُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَحْمَتِهِ عَلَى مَنْ فِيهَا, فَمَا يَتْرُكُ فِيهَا عَبْدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلاَّ أَخْرَجَهُ مِنْهَا ) "السنة" للخلال رقم (1589).
وقَالَ الخلال: قال المروذي : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ , قَالَ : حَدَّثَنَا قَتَادَةُ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ , وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً , ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ , وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً , ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ , وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ([2])) "السنة" للخلال رقم (1590).
ثانياً، وثالثاً: الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان -رحمهما الله-.
قال الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان في عقيدتهما (ص104) من "قرة العينين بتوضيح معاني عقيدة الرازيين:
"والشفاعة حق، وأنَّ ناساً من أهل التوحيد يخرجون بالشفاعة حقٌّ".
رابعاً: الإمام البربهاري-رحمه الله-.
قال الإمام البربهاري في كتابه "شرح السنة": والإيمان بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين؛ في يوم القيامة، وعلى الصراط، ويخرجهم من جوف جهنم، وما من نبي إلا له شفاعة، وكذلك الصديقون والشهداء والصالحون، ولله بعد ذلك تفضل كثير فيمن يشاء، والخروج من النار بعدما احترقوا وصاروا فحما"، انظر "عون الباري ببيان ما تضمّنه شرح السنة للإمام البربهاري" (1/137).
خامساً: الإمام الآجري-رحمه الله-.
وقال الإمام الآجري –رحمه الله- في كتاب "الشريعة" (ص274):
"بَابُ وجُوبِ الْإِيمَانِ بِالشَّفَاعَةِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ , أَنَّ الْمُنْكِرَ لِلشَّفَاعَةِ يَزْعُمُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ فَلَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا, وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ يُكَذِّبُونَ بِهَا, وَبِأَشْيَاءَ سَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, مِمَّا لَهَا أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَسُنَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ, وَقَوْلِ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
والْمُعْتَزِلَةُ يُخَالِفُونَ هَذَا كُلَّهُ , لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا إِلَى سُنَنِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا يُعَارِضُونَ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ , وَبِمَا أَرَاهُمُ الْعَقْلُ عِنْدَهُمْ , وَلَيْسَ هَذَا طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا هَذَا طَرِيقُ مَنْ قَدْ زَاغَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَقَدْ لَعِبِ بِهِ الشَّيْطَانُ , وَقَدْ حَذَّرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهِ, وَحَذَّرَنَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَذَّرَنَاهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا".
ثم ذكر بعده باب ما روي أن الشفاعة إنما هي لأهل الكبائر.
ثم قال رحمه الله (ص280):
"بَابُ مَا رُوِيَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ تَعَالَى
786 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ الْمُطَرِّزُ: وَحَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ, فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ, وَإِنِّي اخْتَبَأَتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» لَفْظُ أَبِي مُعَاوِيَة.
787 - حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ , عَنْ أَبِي صَالِحٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ وَأَخَّرْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا».
788 - حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا [ص:1220] يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو , عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْكَ , لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ , أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ نَفْسِهِ".
سادساً: الإمام ابن منده -رحمه الله-.
ساق الإمام ابن منده رحمه الله في كتابه [الإيمان] (2) أحاديث الشفاعة من صفحة(763) إلى صفحة (852).
وفي (ص776) أورد حديث أبي سعيد الخدري الذي يشتمل على خمس مراحل للشفاعة، ثم واصل إلى (ص795)، ثم ذكر أحاديث عن ابن مسعود، وأبي ذر في آخر النار خروجا منها.
وفي (ص802-808) ذكر أحاديث في الشفاعة عن جابر تتعلق بآخر من يخرج من النار.
وفي (ص809-826) ذكر أحاديث أنس في الشفاعة وفيها: أن الله يشفعه فيحد له حدًّا فيخرج أناسا من النار ويدخلهم الجنة.
وفيها أنه يقال له: اذهب إلى أمتك فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من شعير من الإيمان فأدخله الجنة.
ويعود في الثانية فيسجد لربه، ثم يقال له: اذهب فمن وجدت في قلبه مثقال نصف حبة من شعير من الإيمان فأدخله الجنة.
ويعود في الثالثة فيسجد لربه، ثم يقال له: اذهب فمن وجدت في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأدخله الجنة.
وفي (ص826) إلى (832) أحاديث لأبي هريرة، ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأمته، فيقول الله: أدخل الجنة من لا حساب عليه من الباب الأيمن وهم شركاء الناس في الأبواب الأخرى.
وفي (ص834-836) أورد أحاديث لأنس وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شفيع في الجنة، وأنه أكثر الأنبياء أتباعا يوم القيامة.
وفي (ص836) إلى (ص842) ذكر أحاديث عن أبي هريرة في الشفاعة، وفيها: الشفاعة فيمن قال: لا إله إلا الله مخلصا.
والشفاعة فيمن مات لا يشرك بالله شيئًا.
وفي (ص844-847) ذكر أحاديث عن أنس في الشفاعة مختصرة.
وفي (ص848-849) أورد حديث عوف بن مالك وفيه: أشهد من حضرني أن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا.
وفي (ص850-852) ذكر أورد حديثين عن ابن عمر وحذيفة حول المقام المحمود.
سابعاً: الإمام ابن عبد البر -رحمه الله-.
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (19/ 65-70):
وفي الشفاعة أحاديث مرفوعة صحاح مسندة من أحسنها ما حدثناه احمد بن فتح بن عبد الله وعبد الرحمن بن يحيى قالا حدثنا حمزة بن محمد ابن علي قال أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال حدثنا أبو الربيع الزهراني قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا معبد بن هلال العنزي قال اجتمع رهط من أهل البصرة وأنا فيهم فأتينا أنس بن مالك واستشفعنا عليه بثابت البناني فدخلنا عليه فأجلس ثابتا معه على السرير فقلت لا تسألوه عن شيء غير هذا الحديث فقال ثابت يا أبا حمزة إخوانك من أهل البصرة جاءوا يسألونك عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشفاعة فقال حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيؤتى آدم عليه السلام فيقولون يا آدم اشفع لنا إلى ربك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله عز وجل فيؤتى إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى عليه السلام فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى بن مريم فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عليه السلام فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد فأوتى فأقول أنا لها فأنطلق فأستأذن علي ربي عز وجل فيؤذن لي فأقوم بين يديه مقاما فيلهمني فيه محامد لا أقدر عليها الآن فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقول لي يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فأقول أي رب أمتي: أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه مثقال ذرة أو مثقال شعيرة فأخرجه فأنطلق فأفعل ثم أرجع فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول أي رب أمتي: أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار[3]".
فلما رجعنا من عند أنس قلت لأصحابي هل لكم في الحسن وهو مستخف في منزل أبي خليفة في عبد القيس فأتيانه فدخلنا عليه فقلنا خرجنا من عند أخيك أنس بن مالك فلم نسمع مثل ما حدثنا في الشفاعة قال كيف حدثكم فحدثناه الحديث حتى إذا انتهينا قلنا لم يزدنا على هذا قال لقد حدثنا هذا الحديث منذ عشرين سنة ولقد ترك منه شيئا فلا أدري أنسي الشيخ أم كره أن يحدثكموه فتتكلوا ثم قال في الرابعة ثم أعود فأخر له ساجدا ثم أحمده بتلك المحامد فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول أي رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله صادقا قال فيقول تبارك وتعالى ليس لك وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله فأشهد على الحسن لحدثنا بهذا الحديث يوم حدثنا به أنس بن مالك.
وروى همام عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في الشفاعة من أوله إلى آخره بأتم ألفاظ.
وروى سهيل بن أبي صالح عن زياد النميري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله من أوله إلى آخره بمعناه في الشفاعة.
-ثم ذكر عدة أحاديث في الشفاعة- إلى أن قال (ص69): والآثار في هذا كثيرة متواترة والجماعة أهل السنة على التصديق بها ولا ينكرها إلا أهل البدع.
وقال (ص70): كل هذا يكذب به جميع طوائف أهل البدع الخوارج والمعتزلة والجهمية وسائر الفرق المبتدعة وأما أهل السنة أئمة الفقه والأثر في جميع الأمصار فيؤمنون بذلك كله ويصدقونه وهم أهل الحق والله المستعان.
ثامناً: تصريحات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتواتر أحاديث الشفاعة وأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
1-قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (1/318):
"وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنْكَرُوا شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَقَالُوا: لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ عِنْدَهُمْ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ وَلَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلُوهَا لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا.
وَمَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَحَدٌ؛ بَلْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ أَوْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ".
2- وسُئل رحمه الله:
عَنْ الشَّفَاعَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَلْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
"إنَّ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ فِي " أَهْلِ الْكَبَائِرِ " ثَابِتَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ بَلْ كُلُّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ. فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". "مجموع الفتاوى" (4/309).
3-وقال رحمه الله:
"وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ {يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ}". "مجموع الفتاوى" (13/56).
4-وقال رحمه الله:
"وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ اتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مُتَطَابِقَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يُعَذَّبُ وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ". مجموع الفتاوى (18/191- 192).
5-وقال رحمه الله:
"وَحَدِيثُ الْقَبْضَةُ الَّتِي يُخْرِجُ بِهَا مِنْ النَّارِ قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ. نَهْرُ الْحَيَاةِ"([4]). مجموع الفتاوى (4/184).
6-وقال رحمه الله:
"وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وَلَمْ يَقُلْ كَانَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي بَلْ قَالَ: {أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ}"([5]). مجموع الفتاوى (27/440).
إلى أن قال رحمه الله: وَنَظِيرُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا}، وَكَذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ كُلِّهَا إنَّمَا يَشْفَعُ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ فَبِحَسَبِ تَوْحِيدِ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَإِخْلَاصِهِ دِينَهُ لِلَّهِ يَسْتَحِقُّ كَرَامَةَ الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا". مجموع الفتاوى(27/440).
وهذه النصوص عن شيخ الإسلام وغيره من أئمة الإسلام، بل واتفاق السلف من الصحابة وتابعيهم بإحسان تدمغ الحدادية الذين يهوشون على أحاديث الشفاعة، ومن تهويشاتهم قول بعض زعمائهم: إن أحاديث الشفاعة من المتشابه. وقصره الشفاعة على المصلين؛ مخالفين في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام وأئمة الإسلام رحمهم الله.
سابعاً: الإمام ابن القيم -رحمه الله-.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه [حادي الأرواح] (ص272-273) في الكلام على حديث أبي سعيد رضي الله عنه في الشفاعة:
"الوجه العشرون انه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة فيقول عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما، فيلقيها في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه.
فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار بحيث صاروا حمما وهو الفحم المحترق بالنار وظاهر السياق أنه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، فإن لفظ الحديث هكذا فيقول: "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض الله قبضة من نار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط"، فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير ومع هذا فأخرجتهم الرحمة.([6])
ومن هذا رحمته سبحانه وتعالى للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ويذروه في البر والبحر زعما منه بأنه يفوت الله سبحانه وتعالى فهذا قد شك في المعاد والقدرة ولم يعمل خيرا قط ومع هذا فقال له ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك وأنت تعلم فما تلافاه أن رحمه الله، فلله سبحانه وتعالى في خلقه حكم لا تبلغه([7]) عقول البشر وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: (يقول الله عز و جل أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام)".
1- الإمام ابن القيم بنى حكمه هنا على حديث أبي سعيد وأيده بحديث هذا الرجل الذي لم يعمل خيراً قط، وأمر أولاده أن يحرقوه...الحديث.
ولا شك أنه يؤمن بأحاديث الشفاعة الأخرى والأحاديث الواردة في فضل لا إله إلا الله وفضل التوحيد، ولا شك أنه يؤمن بحديث صاحب البطاقة، ونصه:
«إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ "، قَالَ: «فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ».
والذي نعرفه عن ابن القيم أنه كان يرى كفر تارك الصلاة.
لكنه لما وقف أمام حديث أبي سعيد في الشفاعة وما تلاه لم يسعه إلا الاستسلام لها والصدع بمضمونها.
حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- في الشفاعة.
ومنه يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "... فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول رب أمتي أمتي فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل.
قال معبد بن هلال العنـزي الراوي عن أنس –رضي الله عنه-:
هذا حديث أنس الذي أنبأنا به فخرجنا من عنده فلما كنا بظهر الجبان قلنا لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه وهو مستخف في دار أبي خليفة قال فدخلنا عليه فسلمنا عليه فقلنا يا أبا سعيد جئنا من عند أخيك أبي حمزة فلم نسمع مثل حديث حدثناه في الشفاعة قال هيه فحدثناه الحديث فقال هيه قلنا ما زادنا قال قد حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع ولقد ترك شيئا ما أدري أنسي الشيخ أو كره أن يحدثكم فتتكلوا قلنا له حدثنا فضحك وقال: (خلق الإنسان من عجل). ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه.
"ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذاك لك أو قال ليس ذاك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله".[8]
وهؤلاء الأئمة الذين رووا هذا الحديث –حديث أنس- وحديث أبي سعيد رضي الله عنهما يؤمنون بما تضمّنه هذان الحديثان من الشفاعات في الأصناف المذكورة، وقبلهم الصحابة والتابعون الذين بلغهم هذان الحديثان وغيرهما من أحاديث الشفاعة، فما هو رأي الفرقة الحدادية فيهم؟
فحديث أنس -رضي الله عنه- يفيد أن الشفاعة تتناول أصنافاً:
الصنف الأول: من كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان.
الثاني: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
الثالث: من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان.
الرابع: صنف يشفع فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم من قال: "لا إله إلا الله"، فيقول الله له: " ليس ذاك لك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله ".
فهذه الأصناف من أمة محمد أدخلوا النار بذنوبهم، وأخرجهم الله من النار بشفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبما في قلوبهم من الإيمان.
والصنف الأخير: أخرجوا بعزة الله وكبريائه وعظمته وجبريائه ورحمته، وذلك بسبب توحيدهم وإيمانهم، وإن كان في نهاية الضعف.
فهذان الحديثان يجمعان بين الترهيب والترغيب؛ الترهيب من الذنوب والعقوبة الشديدة عليها ليرتدع المسلمون عن الذنوب، والترغيب في الإيمان والتوحيد ليكونوا من أهله.
ثامناً: الإمام ابن كثير -رحمه الله-.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا}:
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا}، قَالَ: وُرُودُ الْمُسْلِمِينَ الْمُرُورُ عَلَى الْجِسْرِ بَيْنَ ظَهْرَيْهَا، وَوُرُودُ الْمُشْرِكِينَ: أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الزَّالُّونَ وَالزَّالَّاتُ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَقَدْ أَحَاطَ بِالْجِسْرِ يَوْمَئِذٍ سِمَاطان مِنَ الْمَلَائِكَةِ، دُعَاؤُهُمْ: يَا أَللَّهُ سَلِّمْ سَلِّمْ".
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} قَالَ: قَسَمًا وَاجِبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: [حَتْمًا]، قَالَ: قَضَاءً. وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيْ: إِذَا مَرَّ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ عَلَى النَّارِ، وَسَقَطَ فِيهَا مَنْ سَقَطَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ ذَوِي الْمَعَاصِي، بِحَسَبِهِمْ، نَجَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِنْهَا بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ. فَجَوَازُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَسُرْعَتُهُمْ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُشَفَّعُونَ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَكَلَتْهُمُ النَّارُ، إِلَّا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ -وَهِيَ مَوَاضِعُ السُّجُودِ-وَإِخْرَاجُهُمْ إِيَّاهُمْ مِنَ النَّارِ بِحَسْبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، فَيُخْرِجُونَ أَوَّلًا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، [ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ] حَتَّى يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ.
ثُمَّ يُخْرِجُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).
كتبه
ربيع بن هادي عمير
22 صفر 1438ه