بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32].
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} ... [النساء: 110].
أورث الله تبارك وتعالى هذه الأمة الكتاب المهيمن على سائر الكتب، فمنهم الظالم لنفسه بالمعاصي التي هي دون الكفر .. ومنهم المقتصد الذي اقتصر على فعل الواجبات، وترك المحرمات .. ومنهم السابق بالخيرات، الذي سبق غيره في الأعمال الصالحة.
فكل هؤلاء الأصناف الثلاثة اصطفاه الله تعالى لوراثة الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن معه أصل الإيمان، وعلم الإيمان، وأعمال الإيمان.
ووراثة الكتاب من أجلّ النعم وأفضلها على الإطلاق.
ومن تجرأ على المعاصي، واقتحم على الإثم، وظلم نفسه بحملها على معصية الله، ثم استغفر الله استغفاراً تاماً، يستلزم الإقرار بالذنب، والندم عليه، والإقلاع عنه، والعزم على أن لا يعود إليه، فهذا قد وعده الله الذي لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة.
فالسائرون إلى الله وإلى دار كرامته ظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته، وإيثار شهواته ولذاته على مراضي الرب وأوامره، مع إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن نفسه مغلوبة معه .. مأسورة مع حظه وهواه، وهو يعلم سوء حاله، ويعترف بتفريطه، وكثرة معاصيه، ويعزم على الرجوع إلى الله، كما قال آدم - صلى الله عليه وسلم - وزوجه حين ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].
فلما علم الله منه حسن التوبة والندم على ما فعل ألقى إليه كلمات فتاب وتاب الله عليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37].
فهذا حال المسلم ينسيه الشيطان ذكر ربه، ويغفل فيعصي ربه ثم يتوب إلى ربه، فيتوب عليه؛ لأنه التواب الرحيم.
فالظالم لنفسه مقصر في الزاد، غير آخذ منه ما يبلغه المنزل، لا في قدره ولا في صفته، بل هو مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود بما يتأذى به في طريقه.
وسيجد غب أذاه إذا وصل المنزل، بحسب ما تزود من ذلك الضار المؤذي.
والظالم لنفسه يستقبل مرحلة يومه وليلته، وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه، فحرَّكَتْ جوارحه طالبة لها، فإذا زاحمتها حقوق ربه فتارة وتارة.
فمرة يأخذ بالرخصة .. ومرة يأخذ بالعزيمة .. ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاوناً ووعداً بالتوبة.
فهذا حال الظالم لنفسه، مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر، والتصديق بالثواب والعقاب.
فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران .. والطاعات والمعاصي .. والحسنات والسيئات .. وهو للأغلب منهما.
فإذا ورد هذا العبد يوم القيامة ميز ربحه من خسرانه، وكان الحكم للراجح منهما، وحكم الله من وراء ذلك لا يعدم منه فضله وعدله.
والذين معهم أصل التوحيد والإيمان إذا خلطوا الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة من التجرؤ على بعض المحرمات، والتقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك، والرجاء بأن يغفر الله لهم، فهؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم كما قال سبحانه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)} ... [التوبة: 102].
ومن مغفرته أن الظالمين المسرفين على أنفسهم، الذين قطعوا مراحل أعمارهم بالأعمال السيئة، إذا تابوا إليه وأنابوا ولو قبيل موتهم فإنه يعفو عنهم ويتجاوز عن سيئاتهم، ومن ندم منهم على ذنبه، واعترف به، ولم يتب توبة نصوحاً قبل موته، فإنه تحت الخوف والرجاء، وهو إلى السلامة أقرب.
فعلى المسلم أن يرفع السدود والحجب التي تحول بينه وبين الحق.
والسدود التي تحول بين المؤمن والحق أربعة:
المال .. والجاه .. والتقليد .. والمعاصي.
فيرفع حجاب المال بإنفاقه في سبيل الله إلا ما يحتاجه .. ويرفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع والهرب من أسباب الذكر .. ويرفع حجاب التقليد بترك التعصب للمذاهب والأشخاص والأماكن .. ويرفع حجاب المعاصي بالتوبة، وهجر المعاصي، والخروج من المظالم.
*
الكلم الطيب