الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين.. وُقِّع في المملكة المتحدة، وخُتم في الولايات المتحدة
كلايف هامبيدج* – (ذا بالستاين كرونيكل)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
"يجب علينا أن نفعل كل شيء للتأكد من أنهم (الفلسطينيون) لن يعودوا أبداً... الكبار سيموتون والصغار سينسون".-(بن غوريون)
النظر في الانتداب البريطاني لفلسطين "المقتطعة من جنوب سورية العثمانية" ونظرته التفضيلية لشن حملة صهيونية لاستعمار فلسطين التاريخية، يعني البحث، في مكان ما، عن خطاب تاريخي مشرف في نقطة ارتكاز استعمارية غير مشرفة.
دام الانتداب البريطاني من العام 1920 إلى العام 1948. وكان قدر الدمقرطة الإيديولوجية لدول الشرق الأوسط الأخرى هو الفشل في ذلك الحين، كما هو حالها الآن -وأن تخذل الفلسطينيين كما تفعل اليوم.
كان الانتداب البريطاني يعني الاحتلال البريطاني. وتم إهداء دولة إسرائيل الصهيونية المعلنة ذاتياً، التي تعلمت دروس الاستعمار من بريطانيا، أرضاً لتطبيق عقيدة الاحتلال الخبيثة. وحتى الآن، ما يزال الاستعمار الذي هو "غير قانوني دائماً" بموجب القانون الدولي، يُمارس باستخدام خديعة إسرائيل عن إسرائيل الكبرى:
"إن (إنشاء) دولة يهودية جزئية ليست النهاية، وإنما البداية فحسب".–(بن غوريون)
لدى مواجهتهم الاضطهاد وما هو أسوا في ثمانينيات القرن التاسع عشر في أوروبا الشرقية والوسطى، أدرك الصهاينة الإحيائيون أن فكرة اندماجهم واستيعابهم في أوروبا لن تكون خياراً على الإطلاق. وبدلاً من ذلك، نظروا إلى مشروع استعماري في فلسطين على أنه الحل السياسي لمشكلتهم.
وعلى الأثر، قامت الكولنيالية البريطانية، والصهونية والعنصرية المتأصلة بتشكيل "ترويكا" غير مقدسة في الجزء المبكر من القرن العشرين. وكان مونتاغو "اليهودي الثاني الذي عمل في الحكومة البريطانية" كوزير للدولة لشؤون الهند من 1917-1922. وأرسل مذكرة تقترح أن سياسة الحكومة البريطانية كانت معادية للسامية. وكتب فيها: "عندما يقال لليهود إن فلسطين هي وطنهم القومي، فإن كل بلد سوف يرغب مباشرة في التخلص من مواطنيه اليهود... سوف توجدون سكاناً في فلسطين يقومون بتشريد سكانها الحاليين، ويأخذون كل ما هو أفضل في ذلك البلد". وتبعاً لذلك، فإن كل يهودي "في أي بلد يحبه"، سوف "(يبقى) كضيف غير مرحب به في البلد الذي يعتقد أنه ينتمي إليه". وفي قضية مونتاغو، كان هذا البلد هو بريطانيا.
لأنهم كانوا غير مرغوبين في بريطانيا، تطلع بلفور إلى إرسال اليهود المضطهدين إلى "شرق أفريقيا البريطانية" كما نوقش في العام 1903، ليجدوا هناك ملجأ شديد الحرارة. ويلاحظ كتاب قطان التشريحي المهم المعنون "من التعايش إلى الغزو": "كان بلفور، رئيس الوزراء، هو الذي وجّه مرور "قانون الغرباء" عبر البرلمان (البريطاني) في العام 1905، والذي وضع قيوداً على حركة الهجرة اليهودية شرقاً في اتجاه المملكة المتحدة".
وفي العام 1921، قامت الولايات المتحدة بوقف الخروج اليهودي المعذب من أوروبا أيضاً بقانون الحصص الطارئ للعام 1921، وقانون الأصول الوطنية للعام 1924. وتم إغلاق "الباب المفتوح" وتقييد الهجرة. وأفضى ذلك إلى تأسيس مشاعر "الخوف من المهاجرين، ورهاب الأجانب والاضطهاد العنصري"، كما ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية "بي. بي. سي".
يتطلب دمج واستيعاب المهاجرين إرادة سياسية متعاطفة. ولم تكن بريطانيا العظمى والولايات المتحدة تجسدان مثل هذه الفضائل.
ويشكل ردع قدوم المهاجرين، كما يُطبق اليوم، سياسة حزب محافظ يسعى إلى تثبيط هجرة اللاجئين المسلمين الساعين إلى اللجوء بطريقة شرعية -وتعمل هذه السياسة المعادية للأجانب الآن على تشجيع الرهاب من المسلمين في هذه الحالة.
رأت طبقة بريطانية مخصوصة الاستعمار في أوائل القرن العشرين باعتباره حقها الإنجيلي بالولادة تقريباً، ونظر الصهاينة إلى الاستعمار على أنه قدرهم الجمعي. وكانت الصهيونية -وتبقى دائماً- حركة تقوم على المصادرة، بحيث لا يمكن أن تكون "يهودية معلمنة ووطنية"، وفقاً للمؤرخ أيلان بابيه.
ليس من المفاجئ بعد ذلك أن تستغل كلتا المجموعتين الحقيقة الخبيثة المتمثلة في معاداة السامية لتوسيع غايتهما المتمثلة في تفوقهما العنصري المتخيل -من جهة الصهاينة في فلسطين، ومن جهة البريطانيين في أي مكان وفي كل مكان.
عندما بدأت الليالي والأيام الطويلة للحرب العالمية الأولى (في آب/ أغسطس 1914)، استشعر الصهاينة وجود فرصة. ولم تكن الإمبراطورية العثمانية التي تعاني من التراجع والانسحاب هي هدف المطالب الصهيونية بالسيادة اللاحقة على فلسطين التاريخية، وإنما كان "العالِم" البليغ والمثابر حاييم وايزمن، يرى بريطانيا العظمى على أنها تجسيد لنزعة إقصائية عنصرية. ولم يكن هناك ما يضاهي "احتقار" بريطانيا العنصري للعرب سوى شكهم العنصري في اليهود.
نظرت بريطانيا إلى الشرق الأوسط من خلال رؤية استراتيجية بعين جشعة طامعة: السيطرة على قناة السويس، وممارسة النفوذ الاستعماري في الهند، والهيمنة على مصر.
كان يمكن أن يشهد الشرق الأوسط بزوغ فجر شرق أوسطي بفضل الشريف الحسين بن علي وعائلته. وقد بدأت رسالة أرسلها الحسين بن علي يوم 14 تموز (يوليو) 1914 إلى المفوض البريطاني في مصر، هنري مكماهون في جزء منها، بقوله إنه يفضل مساعدة بريطانيا: "لما كان من مصلحة العرب أن يفضلوا مساعدة حكومة بريطانيا عن أي حكومة أخرى بالنظر لمركزها الجغرافي، ومصالحها الاقتصادية وموقفها من حكومة بريطانيا".
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1916، كان الحسين بن علي "ملكاً للعرب". لكن القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية كانت ملوك المنطقة.
في شباط (فبراير) 1916، كان اتفاق سايكس بيكو المنطوي على الازدواجية (اتفاقية آسيا الصغرى) يمارس تقسيمه الدموي للمناطق الملونة بالأزرق والأحمر والبني؛ حيث سيصبح الشرق الأوسط "مسيطراً عليه مباشرة" و"خاضعاً لنفوذ" البريطانيين أو الفرنسيين. وفي فلسطين، سوف يصبح هذا السنجق (المحافظة) العثماني:
"منطقة بنيّة (حيث) ستؤسَّس إدارة دولية، والتي سيتم تقرير شكلها بعد التشاور مع روسيا، ولاحقاً بالتشاور مع الحلفاء الآخرين، ومع ممثلي شريف مكة".
بدأ الانتداب البريطاني في الفترة ما بين (1920-1948)، وكذلك بدأت الوحشية اللاإنسانية المطولة (كما وصفها إدوارد سعيد) ضد الفلسطينيين. وقد ووجهت خطة التقسيم في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، والتي حاكتها لجنة الأمم المتحدة التعيسة الخاصة بفلسطين، برفض العرب الفلسطينيين وفتحت الباب للصهاينة. ورفض الفلسطينيون -محقين- حتى كل فكرة التقسيم نفسها. وفي واقع الأمر، أثبت التاريخ والخبرة اللاحقة أن السلاح القاتل الذي كان، وما يزال، قائماً، هو أن إسرائيل الصهيونية لم تكن لديها أي نية للموافقة على اتحاد اقتصادي، أو سيطرة طويلة الأمد لهيئة تابعة للأمم المتحدة على الكيان المستقل الذي كان سيصبح وما يزال حتى اليوم مدينة القدس.
ثمة رسالة أرسلها الرئيس الأميركي ترومان يوم 27 شباط (فبراير) 1948 إلى إدوارد جاكوبسون -وهو زميل قديم له في الجيش وصهيوني متطور- والتي عبرت في ذلك الوقت عما نعرفه تماماً الآن. ويقول ترومان في جزء منها: "آسف لأنني لم أجد الفرصة لرؤية دكتور (حاييم) وايزمن... لم يكن هناك شيء يمكن أن يقوله لي ولم أكن أعرفه مسبقاً على أي حال... إن الوضع غير قابل للحل كما هو في الوقت الحاضر". وللأسف، ما يزال حاله كذلك بالنسبة للفلسطينيين.
*رئيس التنمية البشرية في "فاسيليتيت غلوبال". نشرت هذه المادة أصلاً في "أيام فلسطين".
عن "الغد"