أرذل العمر
لكلِّ مرحلة عمريَّة مقتضياتها وحاجياتها، وقدَّر الله أن يتقلَّب خلقُه في الحياة بين الضعف والقوة؛ ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ [الروم: 54]، فقد يمتدُّ بك العمر فتبلغ أَرْذله؛ كما قال ربنا: ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ [الحج: 5].
هذه المرحلة كثيرًا ما تقضُّ مضجعَ البعض وتنشِئ عندهم هواجس ومخَاوف؛ لِما يكتنفها مِن ضعفٍ، وما يعقبها من تدَهْور في صحَّة المرء وعقلِه، ولهذا كان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ منها بقوله: ((اللَّهم إنِّي أعوذ بك مِن الجُبن، وأعوذ بك من أن أُردَّ إلى أَرْذل العمر، وأعوذُ بك مِن فِتنة الدُّنيا، وأعوذ بك مِن عذابِ القبر))، قال الصنعانيُّ في "سبل السلام": "والمرادُ من الردِّ إلى أَرْذَل العمر: هو بلوغ الهرم والخرف، حتى يعود كهيئتِه الأولى في أَوان الطُّفولة؛ ضعيف البِنية، سخيفَ العَقل، قليلَ الفهم"، وقال المباركفوري في "تحفة الأحوذي": "ويُقال: أَرْذَل العمر أرْدَؤه، وهو حالَة الهرم والضَّعف عن أَداء الفرائِض وعن خدمةِ نفسِه فيما يتنظَّف فيه، فيكون كَلاًّ على أَهْله، ثقيلاً بينهم، يتمنَّون موته".
في "أرْذل العمر" تحتاج هذه الفِئة لعنايةٍ خاصَّة تستجيب لكلِّ التغيُّرات الطَّارئة جسديًّا وذهنيًّا، وحين يكون الاحتواءُ مِن طرف ذَوي القربى، فهذا يخفِّف عنهم عِبْء هذه المرحلةِ وآلامَها، لكن حين يُتركون فريسةً لذئاب البَشر؛ فإنَّ الآلام تشتدُّ بحجمِ اشتداد الضَّعف وخوَرِ القوى، وهذا للأسفِ ما تَسرد فصوله بلا مَللٍ تلك الدُّور التي آوَت بين جدرانها مَن لفظَتْهم الحياةُ عند "أرذل العمر".
لو اقتطَعْت يومًا من أيامِك وقمتَ بإطلالةٍ لإحدى الجمعيَّات الخيرية؛ لأيقنتَ أنَّك ترفل في نعيمٍ مقيمٍ وأنت تأوي إلى منزِلك، تحفُّك أسرة تمازِحها وتشاكسها، تملُّ منها تارةً وتأوي إليها أُخرى، تمارِس معها كلَّ فنونِ الحياة بتقلُّباتها، لكن هؤلاء فقدوا كلَّ بهجةٍ في الدنيا، توقَّف نبضُ الحياةِ في أعينهم، وإن استمرَّ نبضُ القلبِ في الخفقان، تتناسَل أوجاعُهم صباحَ مساء بين جدران ذاك الملاذ الذي آوَوا إليه قسْرًا، فرارًا من غدْر قريبٍ أو حبيب، لائِذِين بحِمَاه وقدْ جفاهم حضنٌ كان بالأمسِ القريب يَرْتوي من فَيض دفئهم وحنانهم.
أيُّ دمعٍ يعبِّر عن ذاك الضَّنك؟ وأيُّ قاموسٍ يستوعب تلك الحكايات؟ دُورُ العَجَزَة فصلٌ من فصول الخِزي، ومظهرٌ من مظاهر العقوق الممقوت، وصمةُ عارٍ في جبينِ ذاك النَّذل السادِر في غيِّه، الذي استكانَ للدنيا وملذَّاتها، وأساخ السمعَ لهواه وأَعْرض عن جنَّته وأخراه، كم تبدو الحياةُ سخيفةً وأنت تبصر هذه النهايات الأليمة التي جعلَت هؤلاء النُّزلاء حبيسي جدرانٍ صامتة، ينتظرون بشغفٍ زياراتٍ من هنا وهناك تُنسيهم جحودَ الأبناء وقهرَ الأقرباء، يشتاقونَ لهدايا تُشعرهم بكَيْنونتهم، يتلمسون دِفْء الحنان في عيونِ الزوَّار، ويرتمون عطشى لأحضانٍ لا يعرفونها، شمسٌ ينتظرون إشراقَتَها كلَّ حين، عساها تُبدِّد ظلمةً دامسة تفتِك بهم في خلواتهم، تقرأ في عيونهم فرحةً عند اللقاء، وحزنًا وأسًى عند الفراق، يسرقون مِن الزمن بعضَ الضَّحكات وهم بين زوَّارهم، يرقصون ويمرحون بعفويَّة وطفوليَّة، وكم تأخذك الدَّهشةُ حين تستمع لكلامِهم فتجده متراصًّا منظومًا! فتزداد حيرتُك: كيف جار الزَّمن على أمثال هؤلاء؟!