24.02.201522:10:55
الفوائد من التحيات
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبي الله، وبعد:
فأستعين الله على استنباط فوائد تربوية وأحكام شرعية من ألفاظ " التشهد الأول " أو " التحيات " والذي يكفي من أهميته أنه يتعلق بالصلاة، وهي عمود الدين، سائلاً الله الإعانة والسداد.
تشهد ابن مسعود رضي الله عنه :
عن ابن مسعود رضي الله قال: " عَلَّمَنِي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَفِّي بين كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ كما يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ من الْقُرْآنِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وهو بين ظَهْرَانَيْنَا فلما قُبِضَ قُلْنَا السَّلَامُ يَعْنِي على النبي صلى الله عليه وسلم " البخاري (5910) ومسلم (400).
وفي رواية (5876): " فإنه إذا قال ذلك أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ في السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرْ بَعْدُ من الْكَلَامِ ما شَاءَ ".
وفي رواية (797): " فَإِنَّكُمْ إذا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ في السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".
وفي رواية (800): " فَإِنَّكُمْ إذا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ في السَّمَاءِ أو بين السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ".
الفوائد المستنبطة:
1ـ دل الحديث على مشروعية تعليم أذكار الصلاة للناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم علّم ابن مسعود رضي الله عنه ذكرا من أذكار الصلاة.
2ـ يدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم السورة من القرآن حتى يحفظوها، بدليل قول ابن مسعود رضي الله عنه:" كما يعلمنا السورة من القرآن " فأصبح تعليمه لهم للقرآن مما يقاس عليه غيره، ويضرب به المثل في التأكيد.
3ـ كما يدل على تخصيص بعض الطلبة بمزيد عناية لقول ابن مسعود رضي الله عنه:"علمني" وقوله:" وكفي بين كفيه "، وهذه العناية تكون لمن تميز منهم كما تميز ابن مسعود رضي الله عنه من بين الصحابة.
4ـ ويدل الحديث "كفي بين كفيه " على أنه من وسائل تعليم الطلاب أن يضع يده على يدي طلابه أثناء التعليم، أو يأخذ بيده، فإن ذلك أدعى لقبول الطالب ومحبته لمعلمه.
5ـ يدل الحديث أيضا على أن المعلم يكرر الألفاظ للطالب حتى يسهل حفظها، وذلك لرواية " أخذتها من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقنيها كلمةً كلمة ".
6ـ قوله: " التحيات " يحتمل عدة معاني هي:
أ ـ المُلك وهذا من التفسير باللازم لأنه التحية للملوك، ولم يكن يحيا بها غير الملوك.
ب ـ والبقاء، لأنها من الحياة.
ج ـ والسلامة، والمعنى: أن السلامة من الآفات والنقائص ثابت لله.
د ـ والعظمة.
وقيل: " إنها تجمع ذلك كله، وما كان بمعناه وهو أحسن" قاله ابن رجب رحمه الله.
وفي هذا من تعظيم الله ما يُرهب قلب المؤمن خشيةً لربه، فاجتمع في قلب المؤمن من تعظيمه لربه الهيئة واللفظ.
فالهيئة هي جلسة التشهد فهي جلسة العبد بين يدي سيده، وهي تحمل في هيئتها من الذل والانكسار ما يليق بالعبد المذنب، كما تحمل من التعظيم لمن هو بين يديه ما يستحقه الله سبحانه وأكثر من ذلك.
7ـ جُمِعَ لفظ " التحيات " لأن الجمع أليق بمخاطبة الملوك، والله ملك الملوك سبحانه وتعالى، وليدخل في ذلك كل تحية في الوجود فالله أولى بها سبحانه.
8ـ ابتدأ بلفظ التحية قبل ذكر الصلوات فقال:" التحيات لله والصلوات " فقدم ذكر التحيات على الصلوات؛ لأن التحية تتقدم على غيرها من عبارات الثناء والتمجيد.
9ـ قوله:" لله " أي الله مختص بها ومستحق لها سبحانه، وهي تفيد وجوب إخلاص العبادة له وحده، ولهذا والله أعلم قدمت بعد قوله " التحيات " فقال:" لله " ثم عطف عليها غيرها من "الصلوات والطيبات" فَسِرُ هذا التقديم يكمن في وجوب الإخلاص وأهميته.
10ـ قوله:" والصلوات " تحتمل:
أ ـ الصلوات المفروضة، وذلك لأن الألف واللام للعهد.
ب ـ وتحتمل الصلوات عموما المفروضة والنافلة، لأن اللفظ عام.
ج ـ وتحتمل الأدعية، لأن الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء.
د ـ وتحتمل سائر الطاعات باعتبار أنها صلة بين العبد وربه،والذي يظهر أن هذا بُعيد.
والأمور الثلاثة الأولى وإن كانت محتملة إلا أن أولاها في نظري أن المراد بها الأدعية، ويدخل في ذلك الصلوات سواء المفروضة والنافلة فهي مليئة بالأدعية، وموطن من مواطنها.
11ـ يدل قوله:" والصلوات " أن صلوات العبد سواء أدعيته أو صلاته الفعلية لا تصرف إلا لله سبحانه، فمن دعا غير الله فقد أشرك، كما أن من صلى لغير فقد كفر، ففي العبارة " والصلوات لله " ما يزيد التوحيد ويثبته.
12ـ قوله:" والطيبات " وإن كان فيها أقوال إلا أن الظاهر والله أعلم أن تبقى على عمومها فتشمل كل طيب من الأقوال والأفعال، فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، ومن عمل عملاً أشرك فيه مع الله تركه الله وشركه، ومن أسمائه الطيب، وقال في كتابه " إليه يصعد الكلم الطيب ".
13ـ قوله:" والطيبات " تَردُ على كل من وصف الله بوصفٍ لا يليق بالله؛ لأنه ليس من طيب الأقوال، وتَمحق كل عمل يُراد به غيرُ الله لأنه ليس من طيب الأفعال، فليتأمل الإنسان أقواله وأفعاله من حيث طيبها وعدمه.
14ـ هذه الألفاظ تربي الإنسان على الإخلاص لله، وتعظيمه، فإن من تأمل ألفاظ هذا الدعاء وجدها تصرف العبادة والثناء لله وحده إعلاما بهذا الأصل.
15ـ يدل الحديث على أن الثناء والكلام الطيب من الأعمال الصالحة التي يثاب عليها الإنسان، ولهذا قال:" والطيبات " يعني أنها لله أيضا، وهذا توسيع لدائرة العبادة لله فكما أن الصلوات من العبادة فكذلك الطيبات من الأقوال والأفعال أيضا عبادة كما أفاده الحديث
16ـ قوله:" والصلوات " بالواو في لفظ الحديث وهي تحتمل:
أ ـ واو عاطفة، فتعطف الصلوات على التحيات، فالصلوات أيضا لله سبحانه كما أن التحيات لله.
ب ـ ويُحتمل أن الواو استئنافية، وعلى هذا فالصلوات مبتدأ والخبر محذوف، وتكون بهذا جملة مستقلة جديدة تؤسس معنى جديدا من التعظيم لله.
17ـ قوله:" والطيبات " بالواو أيضا ويقال فيها كما سبق في واو " الصلوات "، وفي رواية "الطيبات" بدون الواو، إلا أن دخول الواو على الطيبات يؤكد معنى الإخلاص لله في ذلك أكثر من خلوها عنها وهذا من أسرار ألفاظ الشريعة، فالحمد لله على شرعه.
18ـ في الحديث ذكر العام بعد الخاص، فالتحيات والصلوات داخلة في مسمى الطيبات، ومع ذلك أفردت الطيبات باللفظ، وهو أسلوب عربي.
19ـ قوله في التحيات:" والسلام " قال الحافظ ابن حجر: " لم يقع شيء في روايات حديث ابن مسعود رضي الله عنه بحذف اللام – سلام- وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم ".
20ـ قوله:" والسلام " بالألف واللام تحتمل أمورا:
أ ـ لام العهد: أي السلام المعهود على الأنبياء يكون على النبي صلى الله عليه وسلم.
ب ـ لام الجنس: أي جنس السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى رواية ابن عباس رضي الله عنهما بالتنكير " سلام عليك أيها النبي " فيكون التنكير للتعظيم، وهو أهلٌ صلى الله عليه وسلم للتعظيم اللائق به.
21ـ قال الطيبي:" أصل سلام عليك سلمت سلاماً عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه،وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره" فيكون السلام على النبي على هذا ثابتاً مستقراً لا ينقصه جحد جاحدٍ، ولا يضره إعراض معرض.
22ـ قوله:" السلام " أتى بالمصدر ولم يأت بالاسم مبالغة في التسليم من كل عيب، فالألف واللام للاستغراق.
23ـ الحديث راعى جانب التدرج بالدعاء:
أ ـ فابتدأ بالثناء على الله.
ب ـ ثم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
ج ـ ثم الدعاء للنفس.
د ـ ثم الدعاء لإخوانه المسلمين.
فانتظم الدعاء أحسن نظام، وهذا ما ينبغي للإنسان مراعاته في دعائه فيضع لكل أمر موضعه المناسب.
24ـ قوله:" السلام عليك " يحتمل:
أ ـ أن يكون الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة من المكاره والنقص والعيب.
ب ـ ويحتمل أنه تبريك عليه باسم الله السلام.
ج ـ ويحتمل معناه التعويذ بالله والتحصين به، فإن السلام اسم له سبحانه تقديره: الله عليك حفيظ وكفيل، قاله الألباني رحمه الله.
25ـ قوله: " عليك أيها النبي " مع أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، أي أن الخطاب خطاب شاهد مخاطب، وفي هذا دليل على اتباعنا لألفاظ الأحاديث من غير تغيير ولا تبديل، فرحم الله أمةً حفظت دينها وألفاظها.
26ـ في قوله: " فلما قُبض قلنا السلام يعني على النبي " يدل على جواز أن يقول المصلي في تشهده " السلام على النبي ".
27ـ وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في هذا الحديث، وقيل في ذلك حِكم، منها:
أ ـ لأجل أن يُجمع بين النبوة والرسالة، لأن الرسالة ذُكرت في آخر الحديث، فذُكرت النبوة في أوله.
ب ـ وقيل: لأن النبوة كانت قبل الرسالة فقد نبئ النبي صلى الله عليه وسلم ثم أرسل .
ج ـ ويحتمل أن يكون تطبيقا لما في القرآن في قوله تعالى:" إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " فذُكر التسليم مع الوصف بالنبوة.
28ـ يدل الحديث على جواز تقديم النفس في الدعاء على الغير، حيث بدأ المصلي بالدعاء لنفسه فقال:" السلام علينا " ثم دعا لإخوانه فقال:" وعلى عباد الله الصالحين ".
29ـ في قوله:" السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " عِظَمُ حق النبي صلى الله عليه وسلم، حيث خصصه المصلي بجزء من دعائه والسلام عليه بالإضافة إلى الدعاء له بالرحمة والبركة، وهذا عائد إلى منزلته صلى الله عليه وسلم عند المؤمن.
30ـ الملاحظ أن الحديث خصص قولنا: " ورحمة الله وبركاته " للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عائد لعظيم منزلته، وأن حقه أعظم من حق النفس والغير.
31ـ في قوله:" السلام علينا ": فيه الدعاء للنفس بالسلامة، وهذا يرجع لعظيم فضل الدعاء بالسلامة لأنها تشمل السلامة من العيوب والذنوب والنقائص، فاختار من أسماء الله ما يناسب ذلك.
32ـ في الحديث معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أُوتي جوامع الكلم، فقد كان الصحابة يقولون: السلام على فلان وفلان، أي يعددون أسماء الملائكة، فعلّمهم النبي صلى الله عليه وسلم لفظا جامعاً مانعاً.
33ـ فيه الإرشاد إلى الفضل من الأقوال أو الأفعال فقد وجدهم النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لفظاً مفضولاً وهو: "اللهم سلّم على فلان وفلان"، وأرشدهم إلى الفاضل وهو:" السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".
35ـ في الحديث فضيلة الصلاح، فمن كان صالحا فقد حاز على فضل الدعاء له من إخوانه المصلين، ويتضمن الحث على تحصيل الصلاح.
36ـ دل على أن العبودية لله أشرف منازل الصالحين، ولهذا والله أعلم وصفوا بها في هذا الحديث، فنقول:" عباد الله الصالحين " وعلى قدر تحقيق العبودية لله يكون الصلاح، وهذا أيضا من أسرار الاقتران بين العبادة والصلاح "عباد الله الصالحين" وقد جُمعت أيضا العبودية مع الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم " عبده ورسوله " وهذا يزيد مكان العبودية.
37ـ قوله:" الصالحين " يدل بالمفهوم على أن غير الصالحين لا يشملهم هذا الدعاء، وهذا من شؤم عدم الصلاح والعياذ بالله، " قال الترمذي الحكيم: من أراد أن يَحظى بهذا السلام الذي يُسلِمُهُ الخلق في الصلاة فليكن عبداً صالحاً وإلا حُرِم هذا الفضل العظيم " الفتح 2/ 314
38ـ فيه عِظم منزلة الأخوة، فالصلاة رغم منزلتها العظيمة إلا أنه جُعل لإخواننا نصيب فيها من دعائنا، وفي واجب من واجباتها وهو التشهد، وفيه إلماح إلى عدم غفلة الإنسان عن الدعاء لإخوانه خارج الصلاة.
39ـ قوله:" فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض " هذا كلام معترض داخل الدعاء المأثور، وقُدِم لأهميته، والله أعلم وأحكم.
40ـ قال ابن حجر رحمه الله (الفتح 2/315): " قوله: كل عبد لله صالح، استدل به على أن الجمع المضاف، والجمع المحلى بالألف واللام يعم " أي يفيد العموم، وهذه من مسائل أصول الفقه.
41ـ قوله:" في السماء والأرض " تعددت الرواية في هذه اللفظة:
ففي رواية:" في السماء والأرض "،وفي رواية:" بين السماء والأرض " وفي رواية:" أهل السماء والأرض " والأظهر والله أعلم الرواية الأولى فقد رواها الأكثر.
42ـ في الحديث تسمية الشيء بجزئه الأهم، فالتحيات تسمى التشهد؛ لأن أهم ألفاظها لفظ الشهادتين في آخرها، وهذا عائد لمنزلة الشهادتين في الدين.
43ـ جاء لفظ الشهادتين في آخرها إشارة إلى أن الأعمال ينبغي أن تختم بالشهادتين، ولهذا من كان آخر كلامه من الدنيا الشهادة دخل الجنة كما ثبت في الأحاديث، فيناسب لفظ الشهادة التأخير.
44ـ يدل اقتران الشهادتين على الإخلاص والمتابعة، فلا يقبل العمل إلا إذا كان خالصاً لله، وموافقاً سنة نبيه صلى الله عليه وسلم،وهذا هو شهادة ألا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله.
45ـ دعاء التشهد من أجمع الأدعية حيث جمع عدة أمور عظيمة:
الثناء على الله بما هو أهله، ثم السلام على رسوله، ثم الدعاء لنفسه، ثم الدعاء لإخوانه، ثم الشهادتين، وهذا من أعجب ما فيه مع اختصار ألفاظه.
46ـ تعدد صيغ التشهد تدل على الإنسان عليه أن يعمل بما عَلِم، من غير تخطئة لغيره إن كان معه دليل، فابن مسعود وابن عباس وأبو موسى رضي الله عنهم أجمعين كلٌ له تشهده الذي علّمه النبي صلى الله عليه وسلم، وكلٌ عمل وعلّم ما تعلمه من غير تخطئه لغيره، والاختلاف بين الألفاظ يسير.
47ـ تشهد ابن عباس رضي الله عنه بلفظ:" التحيات المباركات الصلوات الطيبات " وكلها بحذف الواو، وهو أسلوب عربي فصيح، لكن إثباتها أكمل كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهذا أحد المرجحات للفظ ابن مسعود رضي الله عنه.
48ـ في تشهد ابن عباس رضي الله عنهما قوله:" التحيات المباركات " يحتمل:
أ ـ أن الواو محذوفة، والتقدير: التحيات لله، والمباركات لله.
ب ـ ويحتمل أن المباركات وصف للتحيات، والتقدير: التحيات المباركات لله، وهو يدل على أن الله يستحق كل تحية مباركة. والأمران محتملان.
49ـ في تشهد ابن عباس رضي الله عنهما في رواية له بلفظ: " سلامٌ عليك أيها النبي، سلامٌ علينا وعلى عباد الله " بتنكير لفظ " السلام " وهو يفيد التعظيم، إلا أن إثبات الألف واللام أكمل في المعنى، ولهذا قال ابن حجر رحمه الله (2/151) " لم يقع في طرق حديث ابن مسعود حذف اللام، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس ".
50ـ انفرد تشهد ابن عباس رضي الله عنه بلفظ " وأشهد أن محمدا رسول الله " والجمع للنبي صلى الله عليه وسلم بين الرسالة والنبوة أكمل من الاقتصار على أحدهما، وهذا أحد المرجحات لحديث ابن مسعود رضي الله عنه.
51ـ في تشهد ابن عمر رضي الله عنهما:" وزدت فيها: وبركاته"، أي بعد قوله: السلام عليك أيها النبي " وزدت: " وحده لا شريك له "، أي بعد شهادة ألا إله إلا الله.
وهذا دليل على أن الصحابة بعضهم يأخذ العلم من بعض؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما لم يزدها من تلقاء نفسه لكن مما سمعه من الصحابة غيره.
52ـ في قول ابن عمر رضي الله عنهما: " وزدت فيها " دليل على أمانة الصحابة في نقل الأحاديث، والتفريق بين ما أَخذه من النبي صلى الله عليه وسلم، وما أخذه من غيره، فشاهت أُعين من يعامل الصحابة كغيرهم في مشروع النقل والتوثيق.
53ـ وهنا مسألة وهي:
لما كان التشهد هو تحية الصلاة، ولهذا يسمى التحيات، فلمِ كان في آخر الصلاة، مع أن التحية موضعها في بداية الأمر؟
والذي يظهر لي - والله أعلم وأحكم - أن المصلي في بداية صلاته استفتح على ربه، فقال دعاء الاستفتاح، ثم خاطب ربه بالفاتحة وقراءة القرآن والذكر والتسبيح والتمجيد له، ثم جلس بين يديه يثني عليه ويحييه بأعظم التحايا ليسأل ربه، فإن المصلي الآن سيطلب من ربه السلامة له ولإخوانه، فناسب التحيات في هذا الموضع؛ لأنها تحية لأجل ما يطلبه من ربه، فهي تحية بين يدي طلب.
54ـ تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لهم كما يعلمهم السورة من القرآن، وتعليم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر دليل على أن التشهد يقال سرا، فلو كان يجهر به لتعلمه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته، قال ابن عبد البر:" وإخفاء التشهد سنة عند جميعهم، والإعلان به جهل وبدعة " أ.هـ
55ـ تعليم عمر رضي الله عنه على المنبر دليل على أن سنته متبعة، وأن ذلك معروف بينهم، وإلا فهو لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،ومع ذلك لم يعترضوا عليه في ذلك.
56ـ قوله في تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" الزاكيات لله " وهي الأعمال الزاكية، يدل على أن الأعمال منها: الزكي، وغير الزكي الذي لا يقبله الله، وفي ذلك من التمحيص للأعمال والإنسان يقول التحيات الشيء الكثير.
57ـ في تعليم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للصحابة على المنبر دليل على الهدف الحقيقي من المنبر الإسلامي يوم الجمعة، وأنه أحد مصادر تعليم الناس.
58ـ صيغ التشهد التي وردت:
أ ـ تشهد ابن مسعود رضي الله عنه، وهو حديث المذكور أعلاه.
ب ـ تشهد ابن عباس رضي الله عنهما، وهو: " التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أنها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله " وفي رواية:" عبده ورسوله " وفي رواية: بتنكير السلام "سلام "، وفي رواية: " واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله " بذكر الشهادة مرة واحدة.
ج ـ تشهد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله " وفي رواية:" وحده لا شريك له ".
د ـ تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "التحيات لله، الزاكيات لله، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا... " بقيته مثل تشهد ابن مسعود رضي الله عنه.
58ـ وتكميلا للفوائد سأذكر حكم التشهد: فقد اختلف أهل العلم في التشهد على قولين:
1ـ الجمهور إلى أنه سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نسيه لم يرجع إليه كما في حديث ابن بحينة رضي الله عنه في الصحيح.
2ـ وأحمد إلى أنه واجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جبره بسجود سهو كما في حديث ابن بحينة رضي الله عنه أيضا.
والصحيح أنه واجب لأمور:
1ـ لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة كما يعلمهم السورة من القرآن.
2ـ لقوله في حديث أبي موسى " فليقل " وهي صيغة أمر وتفيد الوجوب.
3ـ لجبر النبي صلى الله عليه وسلم له بسجود سهو لما نسيه.
59ـ ما الأفضل من صيغ التشهد؟ في ذلك تفصيل:
أ ـ اتفق العلماء على أن أي صيغة أتى بها المصلي فإنها مجزئة.
ب ـ لم يُخرّج في الصحيحين إلا حديث ابن مسعود رضي الله عنه فهو متفق عليه.
ج ـ واختلف أهل العلم بعد ذلك في الأفضل على أقوال:
1ـ فالحنفية وأحمد رحمهم الله رجحوا تشهد ابن مسعود رضي الله عنه: لأنه متفق عليه، وأصح سندا، وفيه زيادات.
2ـ والشافعية رجحوا تشهد ابن عباس رضي الله عنه لأنه من أصغر الصحابة، وأحدثهم فيكون تشهده من آخر الصيغ التي كان يعلمها الصحابة.
3ـ والمالكية رجحوا تشهد عمر رضي الله عنه لأنه كان يعلمه الصحابة على المنبر.
والأمر بحمد الله واسع، والاختلاف يسير.
60 ـ الجماهير على أن المصلي يختار نوعاً واحداً من الأدعية يقوله في صلاته، ولا يجمع بينها في صلاة واحدة، إلا وجها ضعيفا عند الشافعية أنه يجمع بينها في صلاته.
61 ـ الجماهير على أنه لا يقل البسملة في أوله، ولم يصح في ذلك حديث.
هذا ما استطعت جمعه، حامدا لربي ما منّ به عليّ، مستغفرا له عن ذنوب حجبتني عن درر الفوائد، وألطاف المسائل، سائله السداد والقبول، وصلى الله وسلم على نبينا.