وادي لكة.. وثبة الإسلام إلى أوربا
معركة وادي لكة كانت في يوم الأحد 28 رمضان سنة 92هـ ودارت أحداثها على ضفاف نهر وادي لكة واسم النهر بالإسباني جوادليتي، واستمرت المعركة الطاحنة قرابة ثمانية أيام، وانتهت بانتصار المسلمين بقيادة طارق بن زياد وهزيمة ساحقة للقوط الغربيين الذين فروا من أرض المعركة، ولكن ما هي الدروس والعبر التي نأخذها من معركة وادي لكة؟
فتح الأندلس
إسبانيا قبل الإسلام
تمثل شبهجزيرة "أيبيريا" الطرف الغربي لأوربا من ناحية الجنوب قليلاً، وهي تشمل:كلا من إسبانيا، والبرتغال، وكان سكان هذه البلاد خليط من القبائل الجرمانيةوالرومانية؛ مثل قبائل السيوف والآلان والوندان، وظلوا هكذا لفترات طويلة حتىتغلبت قبائل القوط الغربية، وأصلها من جنوب فرنسا على هذه القبائل الجرمانيةوالرومانية، وانفردت بحكم البلاد، وذلك ابتداء من سنة 410م، وكانت قبائل القوط علىالمذهب الأريوسي في النصرانية، وهو المتعارض تماما مع المذهب الكاثوليكي؛ لذلكدخلت هذه القبائل في صراع طويل مع بابوية روما رأس الكاثوليكية في أوربا؛ استمرقرابة القرنين، وانتهى بدخول هذه القبائل في المذهب الكاثوليكي، وذلك سنة 587 م؛وهو التاريخ الحقيقي للديانة النصرانية بإسبانيا؛ أي أن النصرانية لم تكن عميقةالجذور بالبلاد عند دخول المسلمين كما يدعي مؤرخو أوربا.
أماعن الأوضاع الاجتماعية والسياسية بالبلاد؛ فكانت تشير وتبرهن على قرب سقوطوانهيار، وذلك لأن الحكم كان مقصورًا على الأسرة المالكة وكان المجتمع فاسدًا يقومعلى نظام الطبقات على الطراز الهندي البغيض؛ وانقسم أهل إسبانيا إلى:
أ-طبقة النبلاء: وهم سلالة القوط الفاتحين، والتي استولت على أكثر الأرض الخصبةالزراعية، مع إعفائها من الضرائب، وكانت لهم مناصب الجيش والرياسة، وتستأثر هذهالطبقة بغالب خيرات البلاد الوفيرة.
ب-طبقة رجال الدين: وهي المسئولة عن السيادة الدينية، والزعامة الروحية، ولكن الفسادكان متغلغلاً بها حتى النخاع؛ فقد كانت تمتلك قسطًا كبيرًا من الأراضي الزراعيةالمعفاة من الضرائب، وكانت تشارك النبلاء في حكم البلاد، وتبرر الظلم والطغيان منقبل الحاكم على الرعية.
ج-الطبقة الوسطى: وتضم التجار وأصحاب الضياع الصغيرة وموظفي الدولة، وهذه الطبقة كانيقع عليها معظم العبء المالي للدولة؛ فمعظم الضرائب مفروضة عليهم، وغالبيةاحتياجات ورغبات الطبقتين السابقتين تقع عليها.
د-طبقة الأقنان -عبيد الأرض-: وهؤلاء كانوا يفلحون الأرض لكبار الملاك، ويدخلونبأنفسهم وعائلاتهم في عداد ثروة المالك، ولم تكن لهم أية حقوق، وكانوا ينتقلون معملكية الأرض من سيد لآخر.
هـ- طبقة اليهود: وكان لهم دور كبير في الحياة الاقتصادية للبلاد كعادتهم؛ حتىسيطروا على أهم المرافق والصناعات، حتى أحس الحكام بوطأتهم؛ فراحوا يناصبونهم العداء حتى أرغموهم على التنصر.
وهكذا نرى أن الطبقات العاملة في المجتمع الإسباني كانت محرومة من الحقوق، وهذا ما جعلالحياة فاسدة، وأدى إلى قيام الثورات إثر الثورات؛ لأن هؤلاء المحرومين ليس عندهمأية اعتبارات وطنية أو قومية، ولا انتماء عندهم مما سهل طريق الفتح أمام المسلمين.
مقدمات فتح الأندلس
فتح الأندلسكان تولي القائد العظيم موسى بن نصير قيادة الفتوحات الإسلامية لبلاد المغرب بمثابة النقطة الفارقة والحاسمة في مسار الفتوحات الإسلامية؛ حيث بدأ موسى بن نصير في التوجه للضفة الأخرى من المحيط حيث بلاد إسبانيا وبلاد القوط؛ ذلك لأن القائد المحنك قد استطاع بسط راية للفتح الإسلامي حتى آخربلاد المغرب، ووصل لضفاف المحيط الأطلنطي ولم يبق هناك بلد لم يفتحه المسلمون إلامنطقة "سبتة" الحصينة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت سبتة محكومة من قبل القوط في إسبانيا وعليها وال من عندهم اسمه "يوليان"، وقيل:جوليان.
كما قلنا من قبل كانت إسبانيا أرض قلاقل واضطرابات وثورات إثر ثورات؛ فوافق الفتح الإسلامي لبلاد المغرب أيام موسى بن نصير ثورة كبيرة بإسبانيا قام بها أحد رجالالملك "وامبا" القوطي، واسمه "رودريجو"، فاستولى على الملك، وطرد وامبا عن الحكم؛ فثار أنصار "وامبا" ضد "رودريجو" وبدأتحرب أهلية طاحنة بإسبانيا.
كان يوليان والي سبتة من مؤيدي الملك المخلوع وامبا؛ وكان من أشد الناس عداوة لرودريجو لقيام رودريجو باغتصاب ابنة يوليان التي كانت تعمل في بلاط الملك المخلوع وامبا لذلك التجأ وامبا إليه، وأقام عنده بسبتة فترة من الزمن، كان رودريجو خلالها قد أحكم قبضته على مقاليد الأمور بإسبانيا، ولكن بالحديد والنار وقد كان رجلاً طاغية سفاكًا للدماء، أدت غطرسته لاضطراب الأوضاع داخل إسبانيا بشدة حتى غدت على حافة الانفجار، وهذا الأمر دفع وامبا لأن يفكر في الاستعانة بالقوة الجديدة الناشئة بالمغرب: وهي قوة المسلمين، وبالفعل فوض وامبا واليه يوليان في التفاوض والاتصال بالمسلمين لهذا الغرض، وبالفعل اتصل جوليان بطارق بن زياد والي مدينة طنجة وعرض عليه تسليم سبتة مع إشارة بفكرة فتح الاندلس.
ولخطورة هذا القرار رفع طارق بن زياد الأمر لقائده موسى بن نصير الذي رفعه بدوره لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك لاتخاذ قرار حاسم؛ فأرسل إليه الوليد بن عبد الملك يقول: "اختبرها بالسرايا، ولا تغرر بالمسلمين"، أي لا يهجم بالجيوش الكبيرة، بل يختبر قوتها وصمودها بالسرايا الصغيرة أولا.
دورية استطلاعية
بعد وصول الأمر الصادر من الخليفة بدأ موسى بن نصير يحضر لغزو الأندلس؛ فأرسل أول دورية استطلاعية يقودها بطل من أبطال البربر المسلمين واسمه طريف بن مالك، ويكنى بأبي زرعة ومعه مائة فارس وأربعمائة راجل؛ فجاز البحر في أربعة مراكب مبحرًا من مدينة طنجة حتى نزل على أرض الأندلس في منطقة عرفت بعد ذلك بجزيرة طريف، وما زال هذا الاسم حتى وقتنا الحاضر، وكانت هذه السرية أول أقدام مسلمة تطأ أرض الأندلس، وقد استطاعت هذه السرية أن تحقق انتصارًا سريعًا، ثم عادت سالمة دون أن تخسر رجلاً واحدًا مما أظهر سهولة الفتح.
في شهر رجب سنة 92هـ قرر موسى بن نصير التحضير لحرب شاملة وغزو كبير للأندلس بعدما استبان ضعفها وتشتت أهلها، فجهز جيشًا كبيرًا من العرب والبربر يقدر بسبعة آلاف مقاتل يقودهم طارق بن زياد؛ فعبر البحر من مدينة سبتة هذه المرة، وفي سفن يوليان الذي اتفق معه على حرب رودريجو نظير أملاك وإقطاعات كبيرة بالأندلس، وبالفعل وصل المسلمون إلى الشاطئ المقابل لسبتة على أرض الأندلس في المنطقة الصخرية التي عرفت من يومها لوقتنا بجبل طارق.
المعارك الطاحنة
من جبل طارق انطلقت جيوش الفتح الإسلامي لفتح بلاد الأندلس، وتوالت الانتصارات؛ ففتح المسلمون مدينة قرطاجنة؛ وهي في ناحية الشرق، ومنها انطلق إلى ناحية الغرب يستولي طارق بن زياد على الحصون والقرى المجاورة لقرطاجنة، وأقام قاعدة حربية في موضع يقابل الجزيرة الخضراء.
أفاق"رودريجو" من غفلته، ومن حربه ضد خصومه، وقرر توحيد الصفوف من أجل التصدي لغزو المسلمين لبلاده، واصطلح مع أشد منافسيه "إيفا وسيزبوت"واستطاع أن يحشد جيشًا كبيرًا يقدر بمائة ألف مقاتل يتقدمهم الأساقفة والرهبانتوجه به سريعًا نحو الجزيرة الخضراء؛ فكتب طارق بن زياد إلى القائد موسى بن نصيريطلب منه الإمدادات؛ فأرسل له موسى مدد يقدر بخمسة آلاف مقاتل؛ يقودهم طريف بنمالك؛ فأصبح الجيش الإسلامي اثنا عشر ألفًا ويقود الجميع طارق بن زياد.
وفييوم الأحد 28 رمضان سنة 92هـ التقى الجيشان على ضفاف نهر وادي "لكة"واسم النهر بالإسباني "جوادليتي"، وقيل: عند ضفاف نهر آخر اسمه نهر"بارباتي" ومنه جاءت التسمية العربية برباط قرب مدينة "شذونة"في ناحية الجنوب الغربي للأندلس، واستمرت المعركة الطاحنة بين الفريقين قرابةثمانية أيام، وانتهت بهزيمة ساحقة لـ "القوط الغربيين"، وفروا من أرضالمعركة.
استمر زحف طارق بن زياد والمسلمين، وفتحت المدن الواحدة تلو الأخرى، حتى وصل إلى مدينة"طليطلة": وهي عاصمة "القوط" الأسبان، وهناك التقى طارق بنزياد مع الملك المخلوع وامبا، وأعطاه ما اتفقا عليه، وكانت أوامر القائد موسى بننصير لطارق بن زياد ألا يتجاوز الحد في التوغل في بلاد الأندلس؛ خوفًا على جند الإسلام، ولكن يبدو أن سهولة الفتح أغرت طارق بن زياد وأطمعته في مواصلة الفتح، حتى وقع في حصار كبير من قبل "القوط"، وقد قلَّ عدد جنده بسبب ما كانيتركه من حاميات في كل بلد يفتحها؛ فبعث برسالة استغاث فيها بالقائد موسى بن نصير يقول فيها: "إن الأمم تداعت علينا من كل ناحية؛ فالغوث الغوث".
بعد هذه الرسالة قرر القائد موسى بن نصير أن يعبر بنفسه لنصرة المسلمين بالأندلس؛فاندفع بجيش كبير يقدر بثمانية عشر ألفًا من عرب الشام واليمن إلى أرض الأندلس منناحية الجنوب والغرب، وكان يفتح كل المدن الكبيرة التي تقع في طريقه لنجدة المسلمين المحاصرين، وهو بذلك يهدف لعدة أمور منها: فتح كل باقي أجزاء الأندلس،وتخفيف الضغط على المسلمين المحاصرين، وتحطيم معنويات "القوط" المدافعين عن البلاد، وانشغالهم بقتاله عن حصار المسلمين، فلما تم ما أراده موسى توجه إلىمكان المسلمين، وفك الحصار عنهم، واجتمعت القوتان الإسلاميتان وأكملا فتح بلادالأندلس، وبعث موسى بكتاب الفتح لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك فلما قرأه خرساجدًا لله .
تعتبر بلاد الأندلس أسهل بلاد فتحها المسلمون، والسبب الحقيقي وراء ذلك -كما شهد أعداءالإسلام-: العدل والفضل والرحمة؛ يقول "توماس أرنولد" في كتابه"الدعوة إلى الإسلام": "الحق أن سياسة التسامح الديني التي أظهرهاهؤلاء الفاتحون تجاه المسيحية كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذهالبلاد"، ويقول "ويل ديورانت" في قصة الحضارة: "لم تشهد بلاد الأندلس في تاريخها كله أكثر حزمًا وعدالة وحرية مما شهدته أيام فاتحيها العرب".
هل أحرق طارق بن زياد السفن؟
من الأمور التاريخية الشائعة في أحداث معركة وادي "لكة"، ما تناقلته الأخبار عن قيام القائد طارق بن زياد بإحراق سفن الحملة حتى يستبسل المسلمون في القتال، ويحتجون على ذلك بخطبة طارق بن زياد الشهيرة في الجند قبل القتال عندماقال لهم: "أين المفر العدو أمامكم والبحر من وراءكم"؟.
والتحقيق التاريخي لهذه الواقعة يكشف عن عدم صحتها أو أسطوريتها وذلك لعدة أسباب:
1-أن السفن في واقع الأمر لم تكن ملك المسلمين بل كانت ملك حاكم مدينة سبتة الإسباني والمسمى يوليان، فكيف يحرق طارق ما ليس ملكه ولا ملك المسلمين؟
2-أن المصادر التاريخية كلها أجمعت على ذكر أحداث الفتح دون ذكر حادثة إحراق السفن، ولم يذكرها سوى "الإدريسي" في كتابه "نزهة المشتاق" وهو كتاب جغرافيا كُتب بعد فتح الأندلس بثلاثة قرون؛ فكيف يقدم على المصادر الأندلسية المتخصصة والمعاصرة للفتح؟
والمراجع الأوربية التي تذكر الحادثة إنما نقلتها في الأساس من كتاب الإدريسي الذي عاش في صقلية معظم حياته، بل كتب هذا الكتاب لملك صقلية "روجر الثاني".
3-إن تحفيز المسلمين في القتال وتشجيعهم لا يكون بتلك الصورة الغريبة؛ فمن الممكن أن يأمر السفن بالعودة أو حتى يخرقها بخرق معين فتبقى معها عاجزة عن الحركة حتى إصلاحها، وهناك العديد من الحلول غير إتلاف المال بغير وجه حق.
أهم الدروس العبر
1-الإسلام دين الحرية والعدل والمساواة، الجميع أمام الله والأمة سواسية، والنظامالطبقي في الأندلس أيام حكم الأسبان كان من أهم أسباب فسادها وضعفها وسهولة فتح المسلمين لها.
2-جواز التعاون مع غير المسلمين من أجل نفع الإسلام والمسلمين، وذلك من غير أي خروجعن الثوابت الشرعية، مثال تعاون موسى بن نصير مع يوليان الأسباني لفتح الأندلس.
3-الطاعة والانضباط والنظام عناوين وأسرار نجاح المسلمين في فتح أجزاء كبيرة منالعالم القديم في وقت وجيز، فقد استأذن موسى بن نصير الخليفة الوليد بن عبد الملك قبل فتح الأندلس.
4-حنكة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عندما أصدر أوامره بعدم التسرع في غزوالأندلس بجيوش كبيرة قبل معرفة أحوالها ومصادر قوتها وضعفها بالسرايا والدوريات الاستطلاعية.
5-معادن المسلمين لا تظهر إلا وقت الشدائد والمحن، فقد انتصروا وهم 12 ألفًا على الإسبان وهم أكثر من مائة ألف.
6-الاستعجال والاغترار ببعض المكاسب السريعة قد تورط الأمة في نكبات كبيرة؛ مثلما حدث مع طارق بن زياد عندما خالف أوامر موسى بن نصير وتوغل في الأندلس دون إذنه، فكاد أن يهلك وجنوده.