فتح كاشغر
"لايزال أهل تركستان الشرقية (سينكيانج) مسلمين حتى اليوم، ولكن القابض منهم على دينهكالقابض على الجمر".
المدينة والسكان:
كاشغر:مدينة من أشهر مدن تركستان الشرقية وأهمها، وكانت عاصمة تركستان الشرقية، ولهامركز عظيم في التجارة مع روسيا من جهة, والصين من جهة ثانية, وبلاد ما وراء النهر[1]من جهة ثالثة،وتشتهر بمنسوجاتها الصوفية الجميلة.
وكانتكاشغر تعتبر قديمًا من بلاد ما وراء النهر، وهي تضم قرى ومزراع كثيرة، يسافر إليهامن سمرقند وإقليم الصغد، وهي في وسط بلاد الترك، وأهلها مسلمون.
وينسبإلى كاشغر علماء كثيرون، منهم أبو المعالي طفرل شاه محمد بن الحسن بن هاشمالكاشغري الواعظ، وكان عالماً فاضلاً، سمع الحديث الكثير، وطلب الأدب والتفسير،ومولده سنة 490هـ، وتجاوز سنة 550هـ في عمره.
ومنهمأبو عبد الله الحسين بن علي خلف بن جبرائيل بن الخليل بن صالح بن محمد الألمعيالكاشغري، كان شيخًا فاضلاً واعظًا، وله تصانيف كثيرة بلغت في الحديث وحده مائةوعشرين مصنفًا وأكثر، وتوفي ببغداد سنة 484هـ.
وهكذاكان المسلمون في أيام عزهم، ينتقلون لطلب العلم والرزق من كاشغر شرقًا إلى الأندلسغربًا، إلى سيبيريا شمالاً، إلى المحيط جنوبًا، بدون جوازات سفر ولا سمات دخولوبغير حدود ولا سدود، وقد أصبحت دولة الإسلام اليوم، دولة الإسلام الواحدة، سبعًاوثمانين دولة ما بين ملكية وجمهورية وإمارة ومشيخة ومستعمرة، يحتاج الذي يريد زيارتها-إن استطاع وسمح له- إلى عشرات سمات الدخول ومئات العراقيل وآلاف العقبات، وأصبحالمسلم في دار الإسلام غريبًا.
وتركستانالشرقية التي تقع فيها مدينة كاشغر، يحدها من الجنوب: الباكستان والهند (كشمير)والتبت، ومن الجنوب الغربي والغرب: أفغانستان وتركستان الغربية، ومن الشمال:سيبيريا، ومن الشرق والجنوب الشرقي: الصين ومنغوليا.
وقداجتاحت تركستان الشرقية القوات الصينية الشيوعية سنة 1949م واحتلتها، فأطلق عليهاالصينيون اسم (سينكيانج) وهي كلمة صينية تعني: المستعمرة الجديدة، وتبعهم بهذهالتسمية الأوربيون وبعض المصادر العربية الحديثة، إلا أن أهل تركستان الشرقيةالمسلمون يحبون أن تسمى بلادهم باسمها القديم: تركستان الشرقية، ولا يحبون تسميتهابالاسم الصيني الجديد.
وقدلعبت تركستان الشرقية دورًا تاريخيًّا مهمًّا في التجارة العالمية, وكان طريقالحرير المشهور يمر بها، وهو الطريق الذي كان يربط بين الصين، أبعد بلاد العالمالقديم، والدولة البيزنطية.
وبدأالإسلام يدخل تركستان الشرقية على عهد عبد الملك بن مروان سنة ست وثمانين الهجرية/ 705م، ولكن البلاد أصبحت إسلامية حكومة وشعبًا سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائةالهجرية / 964م بدخول السطان ستوق بغراخان الإسلام، فشمل الإسلام البلاد كافة.
ولايزال أهل تركستان الشرقية مسلمين حتى اليوم، ولكن القابض على دينه كالقابض علىالجمر.
التمهيد للفتح:
قطعقتيبة بن مسلم الباهلي النهر -نهر جيحون- في سنة أربع وتسعين للهجرة / 712م متوجهًاإلى فرغانة. وفرغانة اسم مدينة واسم إقليم. وإقليم فرغانة من أقاليم نهر سيحون فيبلاد ما وراء النهر، متاخمة لتركستان، وليس فما وراء النهر أكثر قرى من فرغانة،وربما بلغ حد القرية مرحلة لكثرة أهلها وانتشار مواشيهم وزروعهم.
أمافرغانة المدينة فكثيرة الخيرات، كثيرة القرى والحقول والمزارع، بينها وبين سمرقندخمسون فرسخًا.
واصطدمتقوات قتيبة بقوات أهل فرغانة في مدينة خجندة إحدى مدن إقليم فرغانة، فقاوم أهلفرغانة ومن معهم من الترك القادمين مددًا لهم من مدينة كاشغر المجاورة، وكانتمقاومتهم شديدة اضطر قتيبة على الاشتباك بهم مرارًا، وفي كل مرة يكون الظفر فيهاللمسلمين. وأخيرًا انتهت مقاومة أهل فرغانة وحلفائهم الباسلة، ففتح المسلمونالإقليم كافة.
وكانسبب حشد أهل فرغانة قواتهم الضاربة في خجندة، هو لأنها أول مدن إقليم فرغانة منالغرب، وهي على حدود إقليم الصغد الشرقية التي فتحها المسلمون من قبل، فهي الخطالدفاعي الأول عن إقليم فرغانة.
وخُجندة،بلدة مشهورة بما وراء النهر، تقع على شاطئ سيحون، بينها وبين سمرقند عشرة أيامشرقًا، وهي مدينة نزهة، ليس بذلك الصقع أنزه منها، وفي وسطها نهر جار، ولأهلها سفنيسافرون بها في سيحون، وتقوم على ضفة سيحون اليسرى.
ولعلموقع هذه المدينة القريب من إقليم الصغد الذي فتحه المسلمون قبل اليوم، وتيسروسائط النقل فيها، وكثرة موادها الغذائية، وأهميتها القصوى لإقليم فرغانة، هي أهمأسباب حشد قوات إقليم فرغانة على أرضها، وقبول المعركة الدفاعية الحاسمة عن إقليمفرغانة في ربوعها.
الفتح:
كانالاحتفاظ بإقليم فرغانة بيد المسلمين، يقضي على المسلمين فتح منطقة كاشغر التي تقعشرقي إقليم فرغانة، ويقطنها الترك كما يقطنون إقليم فرغانة. وفي سنة ست وتسعينالهجرية / 714م غزا قتيبة مدينة كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين وأقربها إلى فرغانة.
وسارقتيبة من مرو عاصمة خراسان على رأس جيشه، وحمل الناس عيالاتهم لتستقر في سمرقند.
وعبرالجيش الإسلامي نهر جيحون، فاستعمل قتيبة رجلاً على معبر النهر، ليمنع من يرجع منجنده إلا بجواز منه وبموافقته الخطية.
ومضىجيش المسلمين إلى فرغانة، مرورًا بسمرقند، حيث أبقى الناس عيالاتهم فيها بحمايةالمسلمين من أهل سمرقند، وكان الإسلام قد انتشر فيها انتشارًا سريعًا موفقًا.
وفيفرغانة، أكمل قتيبة استعدادات جيشه للقتال، وأرسل إلى (شِعب عصام) الفَعَلَةلتمهيده، حتى يجتاز الجيش بسهولة ويسر وسرعة، فأكمل الفعلة مهمتهم، وأخبروا قتيبةبإكمالها.
والفعلةهم سلاح الهندسة، كما نطلق عليه اليوم في المصطلحات العسكرية الحديثة: وهم الذينيمهدون الطرق، ويبنون القناطر والجسور، ويزيلون العقبات الطبيعية، ويؤمّنون وسائطعبور الأنهار، ويشرفون على العبور والمعابر.
ويبدوأن (شِعب عصام) أو وادي عصام، عارض من العوارض الطبيعية الوعرة، يعرقل مسيرة الجيشبقوات كبيرة، ويقع بين فرغانة والحدود الصينية القديمة.
وتقدمقتيبة على رأس جيشه من فرغانة، سالكًا الطريق التجارية التي تربط مدينة فرغانةبمدينة كاشغر، مارًّا بجنوب بحيرة (جاتيركول) السوفييتية حاليًا، على الحدودالصينية-السوفييتية، مقتحمًا ممر (تيترك) في تركستان الشرقية.
وبعثقتيبة مقدمة أمام جيشه إلى كاشغر، فتقدمت حتى وصلت إلى هدفها، بعد أن أزاحتالمقاومات الطفيفة التي صادفتها في طريقها، وغنمت وسبت.
وأوغلقتيبة حتى قارب حدود الصين القديمة، ففتح كاشغر، وجنغاريا الواقعة على حدودمنغوليا، وترفان على مقربة من الحدود المنغولية، وخوتن الواقعة شمالي التبتوكشمير، وقانو التي تقع تمامًا في منتصف الصين الحالية.
ولكنالمصادر العربية المعتمدة تقتصر على فتح كاشغر في هذه السنة ولا تقدم التفاصيلالإضافية الأخرى عن فتوح المدن الصينية الأخرى.
المفاوضات:
باتالاصطدام بين المسلمين من جهة وبين ملك الصين من جهة ثانية وشيكًا، فطلب ملك الصينالتفاوض بين الجانبين، وعرض التفاوض على قتيبة، فقد أوغل قتيبة حتى قارب الصينواخترق حدودها الغربية، فكتب إليه ملك الصين: "ابعث إليَّ رجلاً شريفًايخبرني عنكم وعن دينكم"، فوافق قتيبة على طلب ملك الصين.
واختارقتيبة من بين رجال جيشه اثني عشر رجلاً، لهم جَمال وألسن وبأس وتجمّل وصلاح، وأمرلهم بعُدّة حسنة ومتاع حسن من الخز والوشي وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هُبيرةبن المشمرج الكلابي مفوّهًا سليط اللسان، وقال لهم: "إذا دخلتم على ملكالصين، فأعلموه أني حلفتُ أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبيخراجهم"..
وساروفدُ قتيبة إلى ملك الصين، عليهم هبيرة بن المشمرج الكلابي، فلما قدموا الصين،دعاهم ملكها، فلبسوا ثيابًا بياضًا تحتها الغلائل، وتطيبوا ولبسوا الأردية، ودخلواعلى الملك، وكان عنده عظماء قومه، فأخذوا أماكنهم في مجلسه، فلم يكلم الملك الوفدولا أحدًا ممن عنده.
ولماانصرف الوفد من مجلس الملك، قال الملك لمن حضره: "كيف رأيتم هؤلاء؟",قالوا: "رأينا قومًا ما هم إلا نساء".
وبالطبعقال من حول الملك ما يحب الملك أن يسمع، لا ما يجب على الملك أن يسمع، أسوة بمنحول أصحاب السلطان في كل زمان وكل مكان.
وفيغد دعاهم الملك إلى مجلسه، ولبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف -ألبسة من خزّ مربعةلها أعلام- وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه, قيل لهم: ارجعوا.
وقالالملك لأصحابه بعد انصراف وفد المسلمين: كيف رأيتم؟ فقالوا: هذه أشبه بهيئة الرجالمن تلك.
وفياليوم الثالث دعاهم الملك إلى مجلسه أيضًا، فشدوا سلاحهم، ولبسوا البيض -الخوذوالمغافر- (جمع مِغفر)، وهو زرد ينسج على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة, وأخذواالسيوف والرماح والقسي، وركبوا خيولهم العربية المطهمة الأصيلة.
ونظرإليهم ملك الصين، فرأى أمثال الجبال المقبلة، فلما دنوا من مجلس الملك، ركزوارماحهم ثم أقبلوا مشمرين.
وقيللهم قبل أن يدخلوا على الملك: "ارجعوا", لِما دخل في قلوب الملك ومن معهمن رجال الصين وقادتها من خوف ورهبة.
وانصرفالوفد عائدًا إلى مستقره، بعد أن أخذوا رماحهم واستعادوا سلاحهم وامتطوا خيولهم،ثم دفعوا الخيل حضرًا -عدْو ذو وثب، وهو ركض الخيل بأقصى سرعتها، كالذي يجري فيسباق الخيل- كأنهم يتطاردون، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينامثل هؤلاء!
وفيمساء ذلك اليوم، بعث ملك الصين إليهم، أن ابعثوا إليّ زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة،فقال له الملك: قد رأيتم عظم ملكي، وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنت في يدي بمنزلةالبيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم.
وماكان هبيرة بحاجة إلى التهديد والوعيد، وليس هو من الرجال الذين يخيفهم التهديدوالوعيد، فهو لا يكذب أبدًا حتى ولو قتل على أن يكذب لا على ألا يكذب، فلا مجاللتهديده بالقتل إذا لم يصدق.
وسألالملك هبيرة: لماذا صنعوا في الزي الأول ما صنعوا، ثم الزي الثاني، والزي الثالث؟
وكانجواب هبيرة: أما زيّنا الأول، فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثانيفإذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا.
وقالالملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف، فإني قدعرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثتُ عليكم من يهلككم ويهلكه.
وإذاكانت الجبال الراسيات تهتز قيد أنملة من خطرات النسيم العليل، فإن هبيرة قد اهتزيومئذ من وعيد الملك وتهديده، فلا بد له من أن يبلغ هذا الملك رسالة قتيبة بقوةوأمانة وصدق، فقال للملك في ثقة كاملة وهدوء تام: كيف يكون قليل الأصحاب مَن أولخيوله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصًا من خلّف الدنيا وغزاك؟
وأماتخويفك بالقتل، فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.
واستخذىالملك في مجابهة قولة الحق، فنسي تهديده ووعيده، ثم تساءل في قول ليّن رقيق: فماالذي يُرضي صاحبك؟ فأجابه هبيرة بقول فصل لا مساومة فيه: إنه حلف ألا ينصرف حتىيطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطَى الجزية.
واستخذىالملك إلى درجة الانهيار بعد أن سمع كلمة الحق تزهق الباطل، فقال: فإنا نخرجه منيمينه، نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطأه، ونبعث أبناءنا فيختمهم، ونبعث لهمالاً يرضاه..
ودعاالملك بصحاف من ذهب فيها تراب من أرض الصين، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان منأبناء ملوكهم، ثم أجاز الوفد فأحسن جوائزهم، فقدموا على قتيبة الذي قبل الجزية،وختم الغلمان، وردّهم إلى الملك، ووطئ تراب الصين.
وقدلجأ الوفد الإسلامي إلى تبديل أزيائهم للتأثير في معنويات ملك الصين ومن معه، مماأدى إلى انهيار معنويات الصينيين واستجابتهم لمطالب المسلمين.
حقيقة الفتح:
المؤرخونالعرب يذكرون أن مدينة كاشغر هي أدنى مدائن الصين، ولكن البلدانيين العرب يذكرونأنها من مدن تركستان. وما أخطأ المؤرخون العرب، لأن حدود الصين كانت تمتد غربًافتضمّ حدودُها تركستان الشرقية بكاملها، أو جزءًا منها في حالة اشتداد قوة ملوكالصين، وتنحسر تلك الحدود نحو الشرق، فتستقل تركستان الشرقية بحدودها الطبيعية، أوتمتد حدود تركستان الشرقية فتضم إليها أجزاء من الصين، في حالة قوة ملوك تركستانوضعف ملوك الصين. وما أخطأ البلدانيون العرب القدامى في ذكرهم أن مدينة كاشغر منمدن تركستان الشرقية، فهي في الواقع كذلك أصلاً، ولكنها تدخل في حدود الصين تارة،وتكون خارج حدودها تارة أخرى.
وقدظلت تركستان الشرقية خاصة عرضة لهجمات الصينيين حتى أصبحت اليوم من أجزاء الصينكما هو معلوم.
ومنمراجعة تاريخ تركستان الشرقية القديم يتضح لنا أن منطقة كاشغر والمناطق التي حولهاالتي امتدت الفتوحات الإسلامية إليها، كانت ضمن دولة (كول تورك) التي كانت من سنة552م إلى سنة 745م، ومعنى هذا أن الفتح الإسلامي في تركستان سنة ست وتسعين الهجرية/ 714 م, كان على عهد تلك الدولة التركية التي كانت في عداء مستمر مع جارتهاالشرقية الصين، وكانت على ولاء كامل مع بلاد ما وراء النهر، وخاصة مع إقليمفرغانة، لأن العنصر التركي كان يسيطر على هذا الإقليم، فكان تعاونه مع تركستانالشرقية تعاونًا وثيقًا.
ويذكرلنا تاريخ تركستان الشرقية القديم، أن الاضطرابات شملت تركستان الشرقية سنة إحدىوعشرين ومائة الهجرية / 738م، فاستغل الصينيون هذه الاضطرابات واعتدوا على تركستانالشرقية وضمّوها إلى بلادهم.
ولكنالأتراك من سكان تركستان الشرقية تمكنوا من الحصول على المعونات العربية الإسلاميةسنة أربع وثلاثين ومائة الهجرية / 751م على عهد الدولة العباسية في بغداد، وتمكنوابهذا العون من إنقاذ بلادهم من حكم الصين، وهزموا الصينيين في معركة (تالاس)المشهورة[2]=reference>.
يتضحمن ذلك أن الفتح الإسلامي في كاشغر والمدن الأخرى جرى في تركستان الشرقية لا فيالصين، ولكن ملك الصين الذي وجد سرعة تقدم الفتوح الإسلامية ووصولها إلى حدودهالغربية مباشرة في حينه، سعى لإرضاء الفاتحين خوفًا من اختراق بلاده وفتحها، فقدمما قدم لقتيبة إرضاء له ولمن معه من المجاهدين، وصدًّا لتيارهم الجارف بالتي هيأحسن.
الشهيد:
والسببالحقيقي لعودة قتيبة وجيشه عن حدود الصين الغربية، كما تذكر المصادر التاريخيةالمعتمدة، هو وصول خبر وفاة الوليد بن عبد الملك، وتولّي سليمان بن عبد الملكالخلافة بعده، وكان ذلك سنة ست وتسعين الهجرية[3]=reference>،وكان الوليد مؤيدًا لقتيبة وسندًا له أسوة بقادة الحجاج بن يوسف الثقفي كافة، وكانسليمان يكرههم ولا يميل إليهم، لأن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمانبن عبد الملك عن ولاية العهد ويجعل بدله عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك ابنه،فبايعه على خلع سليمان الحجاجُ وقتيبة وقادة الحجاج الآخرون.
وعادقتيبة بمن معه من جيش المسلمين، فقتل في فرغانة سنة ست وتسعين الهجرية، وهي فيطريق عودته إلى خراسان، فقال رجل من العجم: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة! والله لوكان قتيبة منا فمات لجعلناه في تابوت فكنا نستسقي به ونستفتح إذا غزونا!
وقالأحد رجالات العجم بعد مقتل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة: يا معشر العرب، قتلتمقتيبة ويزيد وهما سيدا العرب!
ورثاقتيبة كثير من شعراء العرب، فقال الفرزدق:
أتانيورحلي بالمدينة وقعة *** لآل تميمٍ أقعدتْ كل قائم
وقالعبد الرحمن بن جمانة الباهلي:
كأنّ أباحفص قتيبة لم يَسْرِ *** بجيشٍ إلى جيـش ولم يَـعْلُ منـبرا
ولم تخفقالرايات والقوم حوله *** وقوف، ولم يشهد له الناسُ عسكرا
دعتهالمنايا فاستـجاب لربّه *** وراح إلى الجنـات عِـفًّا مطـهّـرا
فمـا رزئالإسلامُ بعدَ محمّد *** بمثل أبي حـفـص، فيبكـيه عبْهَرا
وعبهرا:اسم ولد لقتيبة.
وقالجرير في رثاء قتيبة:
ندمتم علىقتل الأمير ابن مسلمٍ *** وأنتم إذا لاقيتم الله أندَمُ
لقد كنتمفي غزوه في غنيمة *** وأنتم لمن لقيتـم اليومَ مغنَمُ
على أنهأفضى إلى حور ربّه *** وتُطبق بالبلوى عليكم جهنمُ
والشعرفي رثائه كثير، والثناء عليه أكثر، ولكنه كان أكبر من كل رثاء وثناء، فآثارهباقية، وفتوحه عظيمة، وأعماله لا تبلى.
يكفيأن نذكر أن مساحة فتوحه تبلغ أربعين بالمائة من مساحة الاتحاد السوفيتي[4] وثلاثًاوثلاثين بالمائة من مساحة الصين الشعبية في الوقت الحاضر.وأن سكان المناطق التيفتحها في بلاد ما وراء النهر وتركستان الشرقية ضمن الاتحاد السوفيتي والصين لايزالون مسلمين حتى اليوم، يتبركون بقراءة القرآن الكريم، ويعتزون بالعربية لغةوالإسلام دينًا، بالرغم مما يلاقونه من عنت شديد ومحن وعناء.
ولاأزال أذكر مضيفة على إحدى الطائرات الصينية، صادفتها في إحدى الرحلات في المشرقالإسلامي. فقد رأتني أتلو ما تيسر من القرآن بالمصحف -والطائرة في الجو- فوجدتهاتحتفي بي حفاوة خاصة، ولا تنفك تحيطني برعايتها الفائقة. وسألتني على استحياء أنأهدي لها المصحف؛ لأنها مسلمة، فأهديته لها، فجثت على ركبتيها ووضعته على رأسها،وعيناها تذرفان قائلة: هذه أعظم هدية تسلمتها في حياتي، وسأقدم هذا المصحف الشريفإلى والدتي المريضة فور عودتي إلى بلدي، وستفرح بهذه الهدية العظيمة فرحًا عظيمًا.ومضت إلى سبيلها تؤدي عملها، وما مرت بي إلا وهتفت: الحمد لله.. أنا مسلمة.
ويومهاتذكرت قتيبة الذي لم يقتله أعداء العرب والمسلمين، بل قتله المسلمون.. وترحّمتُعليه كثيرًا وأنا بين السماء والأرض -في الطائرة- وترحّمتُ على شهداء المسلمين.
المصدر:مجلة الأمة، العدد 50، صفر 1405هـ.