معلومات العضو
معلومات إضافية الجنس : عدد المساهمات : 131 نقاط : 231 السٌّمعَة : 2 تاريخ الميلاد : 15/06/1990 تاريخ التسجيل : 10/07/2013 معلومات الاتصال | موضوع: تفسير سورة البروج السبت 31 أغسطس 2013 - 10:11 | |
| تفسير سورة البروج
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾1
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾2 هذا قسمٌ من الله -جل وعلا- بالسماء وبروجها، والبروج: هي الكواكب والنجوم التي في السماء أو منازلها، وهذا قسمٌ من الله -جل وعلا- ببعض مخلوقاته التي يشاهدها العباد؛ لأن الله -جل وعلا- جعل لهم فيها آية وعبرة، ومثل هذه الآية قول الله -جل وعلا-: ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ﴾3 .
ومثلها في دلالتها على السماء والبروج قول الله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ﴾4 .
وهذه البروج التي جعلها الله -جل وعلا- في السماء بَيَّنَ لنا رب العالمين حكمته من خلقها في قوله -جل وعلا-: ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾5 .
وفي قوله -جل وعلا-: ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾6 .
وفي قوله -جل وعلا-: ﴿ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾7 .
فهذه ثلاثة أشياء خلق الله -جل وعلا- النجوم لها؛ رجوما للشياطين الذين يسترقون السمع كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ﴾8 .
وجعلها -جل وعلا- زينة للسماء، ومصابيح يستنير بها العباد.
وجعلها -جل وعلا- علامات يهتدي بها العباد في البر وفي البحر.
ولهذا قال قتادة -رحمه الله-: "خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء؛ رجوما للشياطين، وعلامات يُهْتَدَى بها، فمن تَأَوَّلَ فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما ليس له به علم".
فمن ظن في هذه النجوم أنها تؤثر على مخلوقات الله -جل وعلا- وتدبرها، فهو مشرك كافر بالله العظيم، وأما من استفاد من هذه النجوم في معرفة ما يحتاجه من القبلة أو من الطريق أو من معرفة المواقيت أو من معرفة غيرها مما لا تَعَلُّق له بالشرك، ولا اعتقاد فيه بالتأثير، فذلك مما رَخَّصَ فيه جمهور العلماء.
ثم قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴾9 اليوم الموعود: هو يوم القيامة؛ لأن الله -جل وعلا- جعله موعدا للخلائق يردهم إليه، وهذا بإجماع أهل التفسير.
وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تفسيره بذلك، إلا أن الأحاديث لا تثبت فيه.
ويبين هذه الآية قول الله -جل وعلا- في شأن أهل الجنة: ﴿ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾10 .
وقال -جل وعلا-: ﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾11 .
وقوله -جل وعلا- في الرد على المشركين: ﴿ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴾12 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾13 أكثر المفسرين على أن الشاهد هو يوم الجمعة؛ لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه، والمشهود هو يوم عرفة؛ لأن الحُجَّاجَ يشهدون هذا اليوم، والذي اختاره ابن القيم -رحمه الله- أن هذا مطلقٌ في الشاهد والمشهود، فيكون قَسَمًا بالله، وقسما بالملائكة، وقسما بالرسل، وقسما بالقرآن، وقسما بكل شيء شاهد أو مشهود؛ لأن الله -جل وعلا- أطلق في هذه الآية ولم يُقَيِّد، فكل ما كان شاهدا أو مشهودا بمعنى مرأى أو رائي، أو مُدْرَك أو مُدْرِك، أو عالم أو معلوم، فالله -جل وعلا- قد أقسم به؛ لأن الله -جل وعلا- أطلق ولم يُقَيِّد بشيء.
ولهذا تنوعت عبارات السلف -رحمهم الله- في الشاهد والمشهود، وهذا التنوع لعله في جملته من باب التفسير ببعض، أو تفسير الشيء ببعض آحاده.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾14 الأخدود: هو شق مستطيل عظيم في الأرض كالخندق، هذا هو الأخدود، وأهل الأخدود هؤلاء لعنهم الله -جل وعلا- في هذه الآية، فقال: "لعن الله -جل وعلا- من خَدَّدَ تلك الأخاديد، وأضرم فيها النار، وحرَّق فيها عباد الله المؤمنين".
فقال -جل وعلا-: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾14 أي: لُعِنَ أصحاب الأخدود.
ثم بَيَّنَ الله -جل وعلا- هذا الأخدود فقال: ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴾15 يعني: أن المراد بالأخدود هاهنا النار العظيمة التي أوقدت في هذه الحفر ليمتحن بها المؤمنون، فمن أجاب إلى الكفر لم يُلْقَ، فيها ومن كان مؤمنا وصبر على إيمانه فإنه يُلْقَى في هذه النار.
وقوله -جل وعلا-: ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴾15 أي: ذات الحطب الذي يكون وقودًا لهذه النار.
﴿ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴾16 أي: أن أولئك المجرمين الذين خدوا هذه الأخاديد قعود على هذه النار وعلى جنباتها، يفتنون عباد الله المؤمنين.
﴿ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾17 أي: هم حاضرون، ويشاهدون ما يفعلونه بعباد الله المؤمنين، وذلك لشدة قساوة قلوبهم، وبطشهم، وكفرهم بالله -جل وعلا-؛ لأن العادة جارية أن الكبراء والسلاطين إذا أرادوا تعذيب هذه الأمم لا يأتون ولا يباشرون هذه الأفعال، وهؤلاء يأتون ليروا عباد الله المؤمنين الأحياء وهم يُحَرَّقُون في هذه النار تَشَفِّيًا منهم من أجل أنهم آمنوا بالله -جل وعلا.
وهذه الآيات ذكر بعض العلماء أنها حوادث كثيرة وقعت قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمم السابقة في أنحاء من المعمورة، امْتُحِنَ بها الذين آمنوا، وبعضهم يحمل هذه الآية على القصة التي خَرَّجَها الإمام مسلم في صحيحه من حديث صهيب في قصة الملك والساحر والغلام، وهي قصة طويلة خَدَّ فيها هذا الملك الجبار الأخاديد، وصار يفتن المؤمنين من صبر على إيمانه قُذِفَ فيها.
حتى جاءت امرأة معها صبي، فلما تقاعست أن تقع في النار وكادت تجيب، قال لها الصبي: « اتقي الله واصبري »18 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾19 أي: ما نقم أولئك الكفار من هؤلاء المؤمنين إلا أنهم يؤمنون بالله -جل وعلا.
وهذا كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾20 .
وهذا شأن الكفار ينقمون من المؤمنين لإيمانهم، ويؤذونهم، ويقتلونهم، ويخرجونهم من ديارهم من أجل إيمانهم، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾21 .
فلما كانت العداوة عداوة دينية يحمل عليها بغض الإيمان صاروا يؤذون عباد الله -جل وعلا- بلا رحمة، ويعذبونهم بلا هوادة، وهذا شأن أعداء الله -جل وعلا- مع المؤمنين.
وفي هذه الآيات تنبيه من الله -جل وعلا- لعباده المؤمنين ألا يغتروا بالكفار، ولا يركنوا إليهم، ولا يودوهم؛ لأنهم أعداء لهم، فالشأن في الكافر أنه ينقم من المؤمن لأنه آمن بالله وحده.
وقوله -جل وعلا-: ﴿ الْعَزِيزِ ﴾19 يعني: أن الله -جل وعلا- عزيز لا يُغْلَب ولا يُقْهَر، فله -جل وعلا- عزة القهر، وعزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع.
وقوله -جل وعلا-: ﴿ الْحَمِيد ﴾19 يعني: المحمود؛ فالله -جل وعلا- محمود بما له من صفات الكمال والجلال والعظمة، وبما له من الأسماء الحسنى، وبما له من الأفعال الدائرة بين الفضل والعدل، وهو -جل وعلا- المحمود على كل حال والمحمود بكل لسان.
وقد ذَيَّل الله -جل وعلا- هذه الآية بقوله: ﴿ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾19 - والله أعلم - لئلا يظن مؤمن أن الله -جل وعلا- ليس بقدرته أن يدفع عن أولئك المؤمنين تَسَلُّطَ أعدائهم عليهم؛ وإنما صنع الله -جل وعلا- ذلك وسلط أعداء الله على المؤمنين -مع عزته -جل وعلا- وغلبته وقهره- ليمتحن عباده المؤمنين، ليرى -جل وعلا- هل يحمدوه على كل حال أو لا؟ وإلا فالله -جل وعلا- قادر على أن ينصر أولياءه.
وقد بَيَّنَ الله -جل وعلا- ذلك في كتابه الكريم، كما قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾22 .
وقال -جل وعلا-: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾23 .
وقال -جل وعلا-: ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾24 .
وقال -جل وعلا-: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾25 ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾26 .
فهذه الآيات تدل على أن الله -جل وعلا- قادر على نصر أوليائه، ولكنه -سبحانه- يبتليهم ويختبرهم ليرى -جل وعلا- من يصبر على إيمانه وطاعته، ويمحص الله -جل وعلا- بذلك إيمانه، وليعلم الله -جل وعلا- من ينقلب على عقبيه خاسئا كافرا ضالا.
ولهذا ذكر الله -جل وعلا- عن عباده المؤمنين أنهم إذا جاءتهم مثل هذه المصائب التي يتسلط بها أعداء الله عليهم أنهم يؤمنون ويصدقون بوعد الله، ويزدادون تصديقا وإيمانا بالله، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾27 .
لما تَحَزَّبَ الأحزاب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وضَيَّقُوا عليهم في المدينة، كان موقف المؤمنين ما ذكره الله -جل وعلا- في هذه الآية.
وكما قال الله -جل وعلا- عن المؤمنين: ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ﴾28 يعني: أن المؤمنين يقولون للمنافقين: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وإما النصر. وذلك دليل على ثباتهم على إيمانهم وصبرهم على دين الله -جل وعلا.
وأما المنافقون والكفار، والذين لا يوقنون بلقاء الله فيقولون كما قال إخوانهم قالوا ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾29 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾30 وهذه الجملة فيها تطمين لعباد الله المؤمنين بأن الله -جل وعلا- له ملك السماوات والأرض، فينصر -جل وعلا- من شاء، ويذل من شاء، والكافر مهما تَكَبَّر وتَجَبَّر فإن الله -جل وعلا- له ملك السماوات والأرض، وهو قادر على أن يذله ويخزيه.
وكما أن في هذه الآية تخويفا وتهديدا لأعداء الله -جل وعلا- الذين يفتنون المؤمنين عن دينهم، فإن الله -جل وعلا- له ملك السماوات والأرض، يأخذهم -جل وعلا- على حين غِرَّة وهم لا يشعرون، يأخذهم في تقلبهم، أو يأخذهم وهم نائمون، أو يأخذهم ضُحى وهم يلعبون، والله -جل وعلا- قادر على ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾30 أي: أن الله -جل وعلا- عالم بجميع الأشياء، محيط بها، لا تخفى عليه، كما أنه -جل علا- شاهد للعباد، وهو كذلك شاهد عليهم يشهد لهم -جل وعلا-، ويشهد عليهم، ويشهد -جل وعلا- على كل شيء؛ لأنه -جل وعلا- عالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
ومن ذلك أن الله -جل وعلا- شهيد على أعمال أولئك المجرمين بعباد الله المؤمنين، وهو -جل وعلا- شاهد عليهم يوم القيامة بما كسبته أيديهم، وشاهد للمؤمنين بصبرهم على دين الله -جل وعلا-، وصبرهم على الأذى فيه.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾31 .
هذه الآية يتوعد الله -جل وعلا- فيها الذين فتنوا المؤمنين، وجاء الله -جل وعلا- بوصف الإيمان في هذه الآية ليؤكد -جل وعلا- أنهم ما نقموا منهم إلا لإيمانهم، ولم يقل -جل وعلا-: إن الذين فتنوا أولئك، ولكن قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ ﴾31 ليبين -جل وعلا- ويؤكد أن سبب فتنتهم لأولئك إنما هو إيمانهم الذي ذكره الله -جل وعلا- في قوله: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا ﴾19 .
ثم إنه -جل وعلا- جاء بهذا الوصف ليبين عموم هذا الحكم لجميع الناس، جاء بهذا الوصف، وأدخل عليه الألف واللام، وذلك يقتضي العموم، فالذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات فإنهم داخلون في هذه الآية، بالوصف الإيمان الذي ذكره الله -جل وعلا- وإن كان أولئك الذين قَصَّ الله -جل وعلا- خبرهم هم الداخلين في هذه الآية مباشرة، وهم المرادون بها عند أكثر علماء التفسير.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾31 فالذين يعذبهم الله -جل وعلا- ويستحقون هذا الجزاء هم الذين فتنوا المؤمنين عن دينهم، ثم أصروا على ذلك فماتوا ولم يتوبوا، وأما من فتن المؤمنين ثم تاب بعد ذلك فلا يكون داخلا في هذه الآية؛ لأن الله -جل وعلا- يتوب على من تاب، وذلك غاية الكرم منه -جل وعلا- لعباده، يقتلون أولياءه ويدعوهم -جل وعلا- إلى التوبة، وهذا يدل على أن على أن العبد لا يتعاظم ذنب فعله أن يغفره الله -جل وعلا- له، ولو كان ذلك بقتل الأنفس؛ فإن الله -جل وعلا- قد دعا عباده إلى التوبة مما هو أعظم من قتل الأنفس ﴿ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾32 .
ومن الذنوب الإشراك بالله -جل وعلا-، والذي قتل مائة نفس تاب الله -جل وعلا- عليه، ووعدهم -جل وعلا- وعد أهل الإشراك الذين تابوا بالتوبة ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾33 .
وقوله -جل وعلا-: ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾31 جمع الله -جل وعلا- عليهم في هذه الآية عذابين، قال بعض العلماء: الأول متعلق بعذاب الآخرة، والثاني متعلق بعذاب الدنيا، ذلك أن الله -جل وعلا- ما أمات أولئك الذين فتنوا المؤمنين إلا بعد أن أحرقهم بالنار؛ ذلك أن الله -جل وعلا- ما أمات أولئك الذين فتنوا المؤمنين إلا بعد أن أحرقهم بالنار.
وقال بعض العلماء: إن لهم في الآخرة عذابين: عذاب جهنم، وهذا يعذبون، والمراد به في هذه الآية أنهم يعذبون بزمهرير، وهو البرد الشديد، ثم بعد ذلك يردون إلى العذاب الحار، وهو المراد بقوله -جل وعلا-: ﴿ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾31 .
فهم يعذبون -أولا- بالبرودة الشديدة، ثم يعذبون بعد ذلك بالحرارة الشديدة الأليمة، والذي يظهر -والله أعلم- أن قوله -جل وعلا-: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾31 يعني: أن هؤلاء الكفار لما جمعوا بين أمرين: الكفر بالله -جل وعلا-، وبين تعذيب المؤمنين وصدهم عن دين الله، فإن الله -جل وعلا- يعذبهم عذابا شديدا؛ فيعذبهم -جل وعلا- بجهنم، ولا يزال هذا العذاب يتسع عليهم، وهذا مأخوذ من قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾31 لأن النار إذا اشتعلت فإنها تبدأ تتسع شيئا فشيئا، فكأن الله -جل وعلا- أخبر أنه يزيدهم من العذاب والنكال جزاء ما فتنوا به عباده المؤمنين، وجزاءً على كفرهم بالله -جل وعلا.
والله -جل وعلا- بَيَّن في كتابه أن هذه النار درجات وطبقات، والناس يعذبون في هذه النار بحسب أعمالهم، فمنهم من هو في الدرك الأسفل من النار، ومنهم من يوضع تحت قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، وهو أهون أهل النار عذابا، وما بين ذلك يعذب الله -جل وعلا- الناس في النار.
فالشاهد أنه لما كانت النار درجات ودركات وطبقات، وكانت هذه النار فيها من العذاب ما يقع على قدر ذنب العبد وجرمه، فإن هؤلاء لعظم جرمهم، لكونهم لم يقتصروا على الكفر بالله وحده؛ وإنما تعدوا إلى فتن المؤمنين وصدهم عن دين الله زاد الله -جل وعلا- في عذابهم نكالا لهم، وفي هذه الآية ما يدل على أن العبد المؤمن ولو ارتكب شيئا من السيئات والمعاصي- فإنه لا ينبغي له أن يشهره بين الناس، ويدعو الناس إليه؛ لأن ذلك من فتن الناس عن دينهم، ومن كان كذلك فيُخْشَى أنه إذا فتن العبد عن دينه، وارتد بسبب ما جلبه له من الوسائل وغيرها أن يدخل في هذه الآية التي توعد الله -جل وعلا- بها الكفار، وما كان دون ذلك من فَتْنِ أولياء الله، ومن فتن المؤمنين بالمعاصي والسيئات فإن له نصيبا من العذاب بقدر جرمه الذي ارتكبه من دعوة الناس إلى معصية الله -جل وعلا.
ثم قال الله -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾34 .
يعني: أن الذين آمنوا بالله -جل وعلا- وأطاعوه، وصدقوا بما جاءت به الأنبياء والرسل، واستقاموا على دينه وشرعه، فإن الله -جل وعلا- قد أعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، وهذه الأنهار بينها الله -جل وعلا- في قوله: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾35 .
فهذه أربعة أنهار تجري في الجنة أعدها الله - جل وعلا- للذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقوله -جل وعلا-: ﴿ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾35 أي غير آجن، يعني غير فاسد بطول مكثه.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾34 لأن فوز الآخرة هو الفوز الحق، وأما من فاز بمتاع الدنيا وخسر الآخرة فذلك هو الخسران المبين.
ولهذا كان الفوز بنعيم الآخرة هو الفوز الكبير الذي ليس شيء أكبر منه، بل أكبر شيء هو الفوز بنعيم الآخرة، وأكبر النعيم النظر إلى وجه الله -جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾36 وهذه الآية وما بعدها أتى فيها بيان بأن الله -جل وعلا- وإن أمهل الظالمين، وجعلهم وسلطهم على عباده المؤمنين- فإن بطشه -جل وعلا- ونقمته منهم شديدة، إذا أخذهم -جل وعلا- لم يفلتهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وتلا قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ »37 .
فقول الله -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾36 أي: أن الله -جل وعلا- يأخذ أولئك الكفار بعنف وقوة، ثم أكد -جل وعلا- على ذلك، وزاده تأكيدا بقوله -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾36 .
فالبطش في ذاته هو أخذ بعنف وقوة، ثم إن هذا البطش أيضا موصوف بأنه شديد، ومؤكد باللام، وهذا يدل على قوته، والله -جل وعلا- بطشه شديد، ثم هذا البطش مؤكد -أيضا- بالشدة، وهذا دليل على أن الذين يؤذون المؤمنين ويفتنونهم عن دينهم، أن الله -جل وعلا- لا بد وأن ينتقم لأوليائه منهم في الدنيا والآخرة.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴾39 أي: أن الله -جل وعلا- يبدئ الخلائق، فينشئهم من العدم، ثم بعد ذلك يحييهم بعد موتهم كما قال الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾40 ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾41 .
وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾42 وفي هذه الآية -أيضا- تأكيد وبيان بأن الله -جل وعلا- سيعيد أولئك الذين عذبوا المؤمنين وسيجازيهم، كما أنه -جل وعلا- سيرد المؤمنين الصابرين إليه ويجزيهم على صبرهم أحسن الجزاء.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾43 أي: أنه -جل وعلا- غفور، كثير المغفرة، والمغفرة: هي ستر الذنوب والتجاوز عنها، فالله -جل وعلا- لكثرة ستره لذنوب عباده وصف نفسه بأنه غفور، وسمى نفسه بالغفور.
﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾43 والودود أي -جل وعلا- الذي يحب خلقه، الذي يحب المؤمنين، ويحبه المؤمنون، فالله -جل وعلا- وَادٌّ للمؤمنين، والمؤمنون يودون الله -جل وعلا-، فهو يحبهم وهم يحبونه، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾44 .
وقال -جل وعلا-: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾45 .
وقال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾46 .
فالله -جل وعلا- يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبون ربهم.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾47 أي: أنه -جل وعلا- صاحب عرش، وهذا العرش مخلوق من مخلوقات الله، خلقه الله -جل وعلا- واستوى عليه، والعرش أصله في لغة العرب: سرير المَلِك، ولا تعرف العرب إلا هذا المعنى كما قاله ابن قتيبة.
فالله -جل وعلا- له سرير، وهذا السرير له قوائم كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « فإذا موسى أخذ بقوائم العرش »48 .
وهذا السرير تحمله الملائكة، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾49 يعني: أن الملائكة الذين يحملون العرش والملائكة الذين حول العرش يسبحون بحمد ربهم.
وقال -جل وعلا-: ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾50 .
وهذا العرش هو أعلى المخلوقات، وهو كالقبة عليها، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « إذا سألتم الله تعالى الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه وسط الجنة وأعلاها، وفوقه عرش الرحمن »51 .
فعرش الله -جل وعلا- فوق هذه المخلوقات كالقبة عليها، ولكن كيفية هذا العرش لا نعلمه؛ لأن عقولنا لا تحيط به ولا تدركه.
وهذا العرش قد استوى الله -جل وعلا- عليه، قد ذكر الله -جل وعلا- استواءه على العرش في مواضع سبعة من كتابه الكريم، وهذا العرش، الاستواء على العرش يدل على علو الله -جل وعلا- على خلقه.
ثم قال -جل وعلا-: " المجيد " والمجيد هذه قرأها جمهور القراء بالرفع، أي: ذو العرش المجيد، والمجيد هذا صفة لقوله ذو، يعني: أن الله -جل وعلا- مجيد، والمجد في لغة العرب هو نيل الشرف، وهو -أيضا- الكثرة والسعة، والله -جل وعلا- قد كمل سؤدده على خلقه، وله -جل وعلا- صفات الجمال والكمال والجلال والكبرياء والعظمة، كما أنه -جل وعلا- قد كثر خيره، ووسع عباده، ولهذا العباد يُمَجِّدُون ربهم -جل وعلا- فهو -جل وعلا- ماجد، وعباده يمجدونه -جل وعلا.
ثم قال تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾52 أي: أن الله -جل وعلا- يفعل ما يريد، يفعل أي شيء يريده، ولهذا عبر الله -جل وعلا- عن ذلك بقوله: "لما" والـ "ما" هذه، حرف "ما" من ألفاظ العموم يدل على أن الله -جل وعلا- يفعل ما يشاء.
وهذه الآية: قوله -جل وعلا-: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾52 تثبت أن الله -جل وعلا- لا يتعاظمه شيء، كل شيء أراده فعله، وما فعله -جل وعلا- فهو يريده، أما العبد فقد يريد شيئا ولا يتمكن من فعله، وقد يفعل شيئا وهو لا يريد فعله، وأما الله -جل وعلا- فالفعل والإرادة في حقه متلازمان، ما فعله -جل وعلا- فقد أراده، وما أراده -جل وعلا- فعله؛ لأنه -جل وعلا- هو الذي له ملك السماوات والأرض، وهو العزيز الذي قد قهر كل شيء، ولا يمتنع عليه أي شيء.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴾53 يعني: قد جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- نبأ الجنود، ثم بَيَّنَهم -جل وعلا- بقوله: ﴿ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴾54 والله -جل وعلا- في كتابه قد نَبَّأ نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما كان من خبر قوم فرعون، وما كان من خبر ثمود قوم صالح، وما أهلكهم الله -جل وعلا- به.
وقد قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- نَبَّه أو ذَكَر فرعون وثمود، مع أن الأمم المهلكة كثيرة، إلا أن خبر فرعون كان عند أهل الكتاب منتشرا مشتهرا ظاهرا، ولهم آثار باقية يراها الناس في أسفارهم، وثمود لهم آثار باقية يراها العرب في رحلتهم إلى بلاد الشام؛ لأنهم يمرون على ديار ثمود ويرون هذه الآيات العظيمة من هذه البيوت التي نحتوها، ومع ذلك أهلكهم الله -جل وعلا- وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلم يستطيعوا أن يهربوا مما أراده الله -جل وعلا-؛ بل بطش بهم -جل وعلا-، وفعل بهم ما أراد، وقاهرهم -جل وعلا-، وحمده أولياؤه على ذلك، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾55 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴾56 يعني: مع أن الله -جل وعلا- أهلك هذه الأمم، ورأوا وشاهدوا آثارهم، وعلموا حالهم علما يقينيا لا شك فيه، مع ذلك هم مستمرون في تكذيب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسيستمرون على ذلك؛ لأن الله -جل وعلا- طبع على قلوبهم بكفرهم بآيات الله -جل وعلا-، ولهذا لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾57 أي: أن الله -جل وعلا- محيط بأولئك، لا يخرجون من قبضته وحكمه؛ بل هو محيط -جل وعلا- بهم، قد أحاط بهم فلا يفلت أحد منهم، ولا يخرج أحد منهم عن قهره وحكمته، ولا يخرج أحد منهم عن قبضته وإرادته؛ بل هو -جل وعلا- قد أحاط بهم، وهم بين يديه -جل وعلا-، فإذا شاء -جل وعلا- عَذَبَّهم، وإذا شاء -جل وعلا- رحمهم، وإذا شاء -جل وعلا- انتقم منهم جزاء تكذيبهم.
فهم لا يفلتون عن الله -جل وعلا-، كما قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ﴾58 وهؤلاء الكفار داخلون في قوله -جل وعلا-: ﴿ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾58 وهم في هذه الآية ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾57 أي هؤلاء المكذبون الله -جل وعلا- محيط من ورائهم، لا يخرجون عن قهره وسلطانه -جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾59 أي: هذا القرآن الذي أنزله الله -جل وعلا- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- هو قرآن مجيد، فيه الهدى والنور، وفيه الخير والسعة والبركة لمن اتبعه والتزم أوامره، وهو قرآن مجيد لما اشتمل عليه من الحق والهدى والنور.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾60 أي: أن هذا القرآن في لوح محفوظ عند الله -جل وعلا-، وهذا اللوح المحفوظ عند الله -جل وعلا- كتب فيه مقادير الخلائق، وجعل فيه هذا القرآن العظيم، ثم فَصَله إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم.
وكما قال الله -جل وعلا-: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾61 .
وقال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾62 . |
|
معلومات العضو
معلومات إضافية الجنس : عدد المساهمات : 2119 نقاط : 2129 السٌّمعَة : 7 تاريخ الميلاد : 27/11/1999 تاريخ التسجيل : 03/08/2013 الموقع : algeria معلومات الاتصال | موضوع: رد: تفسير سورة البروج السبت 31 أغسطس 2013 - 17:15 | |
| |
|