تفسير سورة النبأ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾1
قال الله -جل وعلا-: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾2
أي: عن أي شيء يتساءلون، والمتسائلون هم المشركون، وتساؤلهم عن النبأ العظيم، الذي هو يوم البعث والنشور، ووصفه الله -جل وعلا- هنا بأنه يوم عظيم؛ لشدة هوله ومطلعه؛ ولعظم ما يقع فيه من الأحداث التي هي من أمور الغيب، والتي ذكر الله -جل وعلا- أنه يشيب منها الولدان.
وقد جاء وصف هذا اليوم بأنه يوم عظيم في قول الله -جل وعلا-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾3 .
والمشركون كانوا يتساءلون عن هذا اليوم، ليسوا يتساءلون ليستعدوا له، وإنما كانوا يتساءلون تساؤل المنكر له المستبعد لوقوعه وقد بين الله-جل وعلا- تساؤلهم هذا في آيات كثيرة، كما قال الله -جل وعلا- في الإسراء: ﴿ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ﴾4 وفي سورة النمل: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾5 .
وفي سورة السجدة: ﴿ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾6 يعني: إذا تمزقنا وذهبنا أشلاء وبليت الأجساد واختلطت بالتراب "أئنا" يعني ينكرون إعادة الله -جل وعلا- لهم ويستبعدون ذلك.
وفي سورة يس: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾7 وفي أوائل سورة ق: ﴿ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾8 .
فدلت هذه الآيات على أنهم كانوا يتساءلون عن يوم البعث والنشور استبعادا له واستهزاء وسخرية؛ لأنهم قالوا: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾9 يعني: حكايات وقصص تقال لا حقيقة لها.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴾10 يعني: أن الكفار مختلفون في يوم القيامة، فمن الكفار من يجزم جزما قاطعا أنه لا بعث ولا نشور، ومنهم من يشكك في البعث، لكنه لا يجزم بشيء، وهذا هو الأظهر في معنى هذه الآية، وقد دل على هذا قول الله -جل وعلا - في سورة النحل: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ﴾11 .
وفي سورة المؤمنون: ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾12 .
وفي سورة الجاثية: ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾13 .
فهذا جزم منهم بأنهم لا يبعثون وفي سورة الجاثية في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾14 وهذا هو القسم الثاني منهم.
والقسم الأول هو الأكثر، الذين يجزمون بإنكار البعث والنشور، والقسم الثاني يشككون ولكن لا يجزمون.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴾15 هذه كلمة "كلا" تقال للردع والزجر، يعني: ليس الأمر كما يقولون، وهذا التكرار في قوله: ﴿ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴾15 هذا مبالغة في الزجر عن هذا الفعل، ومبالغة في تأكيد وقوع العاقبة الوخيمة عليهم جزاء تكذيبهم؛ لأن قوله: ﴿ سَيَعْلَمُونَ ﴾16 يعني: سيعلمون عاقبة التكذيب، وعاقبة تكذيبهم هذا الذي توعهدهم الله -عز وجل به- في هذه الآية، لم يصرح به في هذه الآية، لكن جاء بيانه في آيات كثيرة، كما في سورة يونس: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ﴾17 وهم الكافرون بالبعث ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾18 .
وفي سورة الإسراء: ﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾19 .
يعني يحشرون صما لا يسمعون، وعميا لا يبصرون، وبكما لا ينطقون، ثم قال -جل وعلا-: ﴿ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾20 .
ثم ذكر الله -جل وعلا- في سورة الأنبياء أيضا عاقبة هذا التكذيب ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾21 وهذا هو إنكار البعث قال الله -جل وعلا-: ﴿ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾22 .
وفي أوائل الصافات: ﴿ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾23 إذا بعثوا يوم القيامة -وقد كانوا من قبل يستسخرون- قالوا: ﴿ يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾23 قالت الملائكة أو المؤمنون: ﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾24 قال الله -جل وعلا-: ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ﴾25 .
وفي السورة نفسها إذا أدخل الله -جل وعلا- المؤمنين الجنة وأدخل الكافرين النار، وجاءت المحاورة بين المؤمن والكافر الذي كان له قرين في الدنيا ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ﴾26 يعني: من أهل الجنة: ﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾27 يعني: صاحب، ﴿ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾28 يعني: مجزيون، ﴿ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴾29 فكان عاقبة التكذيب بيوم الدين أن كان في وسط الجحيم.
وفي سورة المرسلات بين الله -جل وعلا- أيضا عاقبة هذا التكذيب ﴿ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ﴾30 يعني: إن الظل الذي يستظل به الكافرون هو ظل من دخان، لايقيهم الحر، ويأتيهم من هذا الدخان …كما في آية الواقعة ﴿ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ﴾31 ﴿ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴾32 يعني: أن النار ترمي …أو شرارة النار في حجمها وكبرها مثل القصر العظيم ﴿ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ﴾33 يعني: كأنه جمل أصفر في اللون، والجمل الأصفر: المراد به الجمل الأسود، والجمال السود …يكون السواد غالبا هذا مشرب بصفرة، وهذا هو جزاء التكذيب بيوم الدين.
ولهذا قال تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾34 .
فقوله -جل وعلا- في هذه الآية: ﴿ سَيَعْلَمُونَ ﴾16 هذا هو الذي فصله الله -جل وعلا- في آيات أخرى وبينه، وهي أن مردهم إلى النار، وأنهم يعذبون فيها جزاء على تكذيبهم بالبعث بعد الموت.
ومن هذه الآية يُستدل على أن العبد المؤمن لا يكون مؤمنا إلا إذا أيقن يقينا جازما لا شك فيه أن الله -جل وعلا- يبعث الخلق ويجازيهم، وهذا من أركان الإيمان، كما في حديث جبريل -عليه السلام- لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، قال: « أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره »35 وفي رواية: « وأن تؤمن بالبعث بعد الموت »36 وفي رواية: « وأن تؤمن بلقاء الله »37 .
والله -جل وعلا- جعل الإيمان بالبعث من صفات المؤمنين المفلحين في أوائل سورة البقرة ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾38 فمن لم يؤمن بالآخرة فليس بمؤمن، وليس على هدى، بل هو في ضلال، وليس من المفلحين، بل هو من الأشقياء الخاسرين.
وقال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾39 .
فلا يقبل من أحد عمل إلا إذا كان مؤمنا باليوم الآخر؛ ولهذا الكفار لما كانوا لا يؤمنون بالبعث بعد الموت لم تكن أعمالهم الصالحة تنفعهم، كما قال تعالى في سورة الفرقان: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾40 .
فكان عاقبة تكذيبهم باليوم الآخر أن عملهم في الآخرة يكون كلا شيء؛ ولهذا ثبت في الصحيح « أن »41 عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن عبد الله بن جدعان، كان في الجاهلية: إنه كان يقري الضيف، ويحمل الكَل، ويكسب المعدوم أذلك نافعه؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين .
قال العلماء: معناه: أنه كان كافرا بالبعث والنشور، فلم ينفعه إحسانه إلى الخلق، ولا اتصافه بمكارم الأخلاق؛ لأنه لم يكن مؤمنا بالبعث، فمن لم يؤمن بالبعث والنشور فأعماله باطلة وهباء منثور.
ولهذا قال الله -جل وعلا-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾42
فبين -جل وعلا- أن الكفر باليوم الآخر يكون صاحبه من أهل الضلال البعيد، وقرنه بالكفر به -جل وعلا- بالكفر بملائكته ورسله واليوم الآخر.
فالإيمان بالبعث والنشور لا يتحقق لعبد إيمان إلا به، كما قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾43 إلى قوله -جل وعلا-: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾43 .
ولهذا كان الأنبياء والمرسلون مهتمين بشأن هذا اليوم وتقريره للخلق، ونطقهم به.
نوح -عليه السلام- قال لقومه: ﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴾44 .
وإبراهيم -عليه السلام- وهو يخاطب قومه -سورة الشعراء- ويصف رب العالمين في قوله: ﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾45 إلى أن قال: ﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾46 وهذا متضمن للإيمان بالبعث، وقال: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾47 ففيه يوم يُردّ إليه العباد.
ونبي الله يوسف -عليه السلام- يقول: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾48 .
والله -جل وعلا- أوحى إلى نبيه موسى -عليه السلام- فيما أوحى إليه كما في أوائل سورة طه: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾49 .
وعيسى -عليه السلام- يقول: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾50 .
والمؤمن من آل فرعون يقول: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾51 ثم قال بعد ذلك: ﴿ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾52 .
فالأنبياء قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم- كانوا مؤمنين باليوم الآخر، يدعون أقوامهم إليه؛ ولهذا أخبر الله -جل وعلا- عن بعض الأمم أنهم كذبوا بهذا اليوم، كما في أوائل الحاقة ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ﴾53 … إلى آخر الآيات.
فثمود وعاد كذبوا بالقارعة، وهو اسم من أسماء يوم القيامة، وثمود وعاد كذبوا بوقوع القيامة، وسمي قارعة؛ لأنه يقرع القلوب بشدة فزعه وهوله.
فالمؤمن لا يكون مؤمنا إلا بالإيمان بالبعث والنشور بلا تردد، فمن تردد، شك هل هناك بعث أو ليس هناك بعث فهو كافر، فضلا عن من أنكر البعث والنشور.
وهذا كما دل على البعث الشرع الحكيم دلت عليه حتى الأدلة العقلية؛ ولهذا سيأتي بعد هذه الآيات تقرير الله -جل وعلا- للكفار بشأن البعث، وما نصبه -جل وعلا- من الآيات الدالة على قدرته -جل وعلا- على إعادة الخلق، كما بدأهم، وستأتي -إن شاء الله- الدرس القادم.
هذا ما تضمنته هذه الآيات والعلم عند الله -جل وعلا-
س: هذا سائل يسأل يقول: قلت: إن الصحابة أخذوا التفسير عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فكيف إذا اختلف الصحابة والتابعون نتحرى الأقرب؟ لماذا نأخذ بقول الصحابة؟ نرجوا الإيضاح؟
ج: إذا أجمع الصحابة على شيء فقول من بعدهم لا حجة فيه، لكن يراد أن الصحابة إذا اختلفوا فيما بينهم، منهم من يفسر القرآن بهذا ومنهم من يفسره بهذا، فهنا نأخذ من أقوال الصحابة ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة، لا ريب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين لأصحابه ما نزل إليهم، وهذا لا نشك فيه؛ لأننا إذا شككنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبين لهم ما نزل إليهم لم يكن هذا الدين كاملا والله -جل وعلا- قد أمره به ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾54 ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾55 .
فنبينا -صلى الله عليه وسلم- بين للناس، لكن هذا البيان أحيانا قد لا يبلغنا، أو قد يبلغنا بسند ضعيف، وأحيانا بعض الصحابة قد يبلغه تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- والآخر لا يبلغه التفسير، فننظر في أقوال الصحابة إذا اختلفوا فيما بينهم الأقرب منها إلى الكتاب والسنة.
لكن إذا اختلف الصحابة … كانوا في كفة والتابعون في كفة فلا ريب أننا نأخذ بأقوال الصحابة جزما، لكن إذا اختلف الصحابة فيما بينهم، أو اختلف التابعون فيما بينهم، فكان التابعون طائفتين، طائفة تقول بهذا وطائفة بهذا، فهؤلاء نرجح من أقوالهم ما دل الدليل من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- على ترجيحه.
س: هذا السائل يقول: هل في القرآن مبالغة؟
ج: إن كان يريد صيغ المبالغة واردة في القرآن؟ هذه واردة: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ﴾56 "غفار" هذه صيغة مبالغة، هناك صيغ مبالغة تدل على كثرة الشيء وعلى عظمه، وهذه صفات مدح، أو تكون أحيانا واردة في حق المشركين، كثرة إشراكهم بالله -جل وعلا- أو في العصاة، هذه تكون مبالغة في الذم، قد تكون مبالغة في المدح وقد تكون مبالغة في الذم، وهذه لا تخرج القرآن عن أن يكون حقا؛ لأن القرآن ألفاظه هي أحسن ما يدل به على معاني القرآن، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾57 .
فالحق: هو المعنى، والمدلول: من كتاب الله -جل وعلا-، والأحسن تفسيرا: هو كلام الله -جل وعلا-، وهذه الألفاظ -ألفاظ القرآن- هي الأحسن تفسيرا؛ لأنك لا تستطيع أن تغير كلمة من كلمات القرآن لتدلل بها على المعنى الذي أراده الله -عز وجل.
فإن كان المراد المبالغة، يعني: ذِكر أشياء لا حقيقة لها، أو ذكر أشياء هي في نفسها حقيقة، ولكن فيها زيادة، بحيث تخرج الكلام عن أن يكون صحيحا تمام الصحة، هذا غلط ولا يجوز أن يقال في القرآن هذا؛ لأن القرآن ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾58 ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾59 .
وإن كان المراد أنها تأتي في صيغ المبالغة المعروفة عند أهل اللغة، فهذا في القرآن موجود، ولكن في القرآن حق، على حقيقتها.
الشعراء والبشر قد يبالغون في وصف الناس، وقد يبالغون في وصف الأشياء، وقد يبالغون في ذم الناس، ويخرجون بها عن الحقيقة؛ ولهذا وصف الله -جل وعلا- طائفة منهم قال: ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾60 .
فالذين يقولون الحق بدون مبالغة هؤلاء شعرهم ممدوح، والذين يقولون شيئا لا يُفعل أو شيئا لا حقيقة له أو زائدا عن الحقيقة، فهذا شيء مذموم والقرآن بحمد الله -جل وعلا- ألفاظه مطابقة لمدلولاته ومعانيه.
س: هذا سائل يسأل يقول: ما معنى قوله تعالى: ﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾61 .
ج: أهل السنة والجماعة يمرون آيات الصفات كما جاءت، وهذا حق لا إشكال فيه، لكن هناك معان مركبة، ومعان مفردة، هذه المعاني المركبة تختلف؛ المعنى المفرد غير المعنى الذي يكون في السياق، وهذه المسألة فيها إطالة. غدا -إن شاء الله- بداية الدرس نشرح لكم مذهب أهل السنة في مثل هذه الآيات. نعم.
والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لمّا بين الله -جل وعلا- حال الكفار في موقفهم من يوم البعث والنشور وأنهم فريقان: فريق ينكرون البعث إنكارا جازما، وفريق يشكون في البعث، بيّن الله -جل وعلا- فيما يأتي من الآيات الدلائل الدالة على قدرته -جل وعلا- على إحياء الموتى، وهذه الدلائل هي دلائل مشاهدة، تُرى بالأبصار، ولا يستطيع أحد أن ينكرها؛ لأن إنكار الأشياء المحسوسة المعلومة المشاهدة هذا لا ينكره عاقل؛ ولهذا قال الله -جل وعلا-: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴾62 أي: ألم نجعل الأرض ممهدة مستقرة موطأة مذللة؛ لأن الأرض لا يمكن الانتفاع بها على الوجه الأكمل إلا إذا كانت مهيأة، وموطّأة للإنسان.
وهذه الآية قد ذكر الله -جل وعلا- بيانها في آيات كثيرة من كتابه، كما قال الله -جل وعلا- في سورة غافر: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴾63 يعني مستقرا تستقرون عليه، وقال -جل وعلا-: ﴿ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾64 يعني: جعلها مفروشة، قال -جل وعلا-: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ﴾65 يعني: منبسطة وقال -جل وعلا-: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ﴾66 يعني: جعلها ممتدة في طولها وفي عرضها، وقال -جل وعلا-: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ﴾67 يعني: مذللة.
فهذه الآيات كلها تشرح هذه الآية وتبينها، كما تشرح الآية المماثلة لها في سورة طه، ففي سورة طه قال الله -جل وعلا-: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ﴾68 وفي قراءة "الذي جعل لكم الأرض مهادا".
فالمهاد: هو ما بينه الله -جل وعلا- في الآيات السابقة فهذه الأرض جعلها الله -جل وعلا- لعباده ممهدة مذللة مهيأة للسكنى والعمل عليها.
وهذا من دلائل وحدانيته -جل وعلا- ومن دلائل قدرته على البعث؛ ولهذا لفت الله -جل وعلا- …أو أمر العباد بأن يتدبروها وينظروا فيها معتبرين: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾69 ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾70 يعني: أن الله -جل وعلا- جعل الجبال بالنسبة للأرض كالعمد للخيام، فالخيمة تحتاج إلى أوتاد لتحفظها من الاضطراب والحركة والميل، والله -جل وعلا- جعل الجبال على هذه الأرض أو لهذه الأرض بمنزلة الأوتاد للخيمة، تحفظ هذه الأرض من التحرك والاضطراب.
لأن الأرض لو كانت تتحرك وتضطرب بالعباد لم ينتفعوا بها، وشاهد ذلك أن الإنسان لو ركب في مركبة وهي تتحرك وتضطرب به ما استطاع أن ينتفع تمام الانتفاع؛ ولهذا إذا كان في باخرة أو سفينة واضطربت الأمواج، وتحركت بهذه السفينة، فإنه لا ينتفع في هذه الحالة بمثل انتفاعه لو لم يكن هناك اضطراب.
وكذلك الإنسان الآن إذا ركب في سيارة، ثم مر بطريق غير معبّد أو فيه نتوءات فاضطربت عليه السيارة فإنه لا ينتفع وهو بداخل السيارة مثلما لو لم يحصل مثل هذا الاضطراب.
والأرض لو كانت مضطربة ما انتفع بها الإنسان، وما انتفع بها الحيوان، ولما صلحت عليها النباتات تمام الصلاحية؛ ولهذا إذا وقع حركة واضطراب في الأرض فإن الناس يفزعون، وتضطرب عليهم معايشهم؛ لأن الله -جل وعلا- جعل لهم هذه الأرض ساكنة، ولا يستطيعون أن يعيشوا عليها وهي مضطربة، فلذلك إذا حصل فيها أدنى اضطراب فزع الخلق واضطربت عليهم أمورهم.
وقد بين الله -جل وعلا- في آيات أخرى أنه جعل هذه الجبال رواسي لهذه الأرض ترسّيها، كما قال -جل وعلا-: ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا ﴾71 يعني لئلا تضطرب بكم.
وقال -جل وعلا-: ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ﴾72 يعني جبالا كبارا؛ لتحفظها من الاضطراب، وهذه هي إحدى فوائد هذه الجبال وفيها فوائد عظيمة، قد تظهر للعباد، وقد يخفى بعضها على العباد. ولله -جل وعلا- في ذلك الحكمة البالغة.
ولهذا الله -جل وعلا- أمرنا بتدبّرها وتأملها والنظر فيها ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴾73 ؛ ولهذا كانت هذه الجبال لافتة حتى لانتباه الكفار، فضمام بن ثعلبة -رضي الله عنه- لما وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وساءل النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له: وبالذي نصب الجبال آلله أرسلك؟ وهذا يدل على أن هذه الجبال علامة شاهدة على وحدانية الله -جل وعلا- وربوبيته.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴾74 يعني: خلقناكم ذكرا وأنثى، وهذا الخلق من الله -جل وعلا- بيّن في آيات أخرى أن الذكر والأنثى خرجا من أصل واحد ونفس واحدة، كما قال -جل وعلا- في أوائل سورة النساء: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾75 .
وقال -جل وعلا- في أوائل الزمر: ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾76 .
وبين -جل وعلا- أن كلا من الذكر والأنثى مخلوقٌ من ماء، وهذا الماء واحد، ولكن الله -جل وعلا- بقدرته يخلق منه الذكر والأنثى، كما قال الله -جل وعلا- في سورة الفرقان: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾77 .
وقال -جل وعلا- في المرسلات: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾78 وقال -جل وعلا- في سورة الطارق: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾79 .
وقال -جل وعلا- في سورة القيامة: ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾80 .
فالله -جل وعلا- خلق من ماء واحد ذكرا وأنثى، وذلك بقدرته -جل وعلا-، وإلا فالماء واحد، يخرج من الرَّجل، ويقع في رحم المرأة ماء واحد، ولكن الله -جل وعلا- هو الذي يشاء أن يكون ذكرا أو أنثى.
وهذا فيه دلالة عظيمة على قدرة الله -جل وعلا- وتفرده بالوحدانية وقدرته على بعث الخلائق؛ ولهذا قال الله -جل وعلا-: ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾81 .
ثم إن الله -جل وعلا- لمّا خلق الناس زوجين ذكرا وأنثى جعل بينهما اتصالا يحصل به التمتع لكل واحد منهما، ويحصل به النسل، كما قال -جل وعلا-: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾82 وقال -جل وعلا- في سورة النحل: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾83 .
فالله -جل وعلا- في هذه الآيات كلها خلق الذكر والأنثى من نفس واحدة، وأخرجهما من ماء واحد، ثم جعلهما يتصلان، ثم أخرج منهما ذكورا وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾84 .
وبعض العلماء يفسر قوله -جل وعلا-: ﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴾74 يعني: أنواعا يعني أنه جعل الخلق أنواعا، فبنو آدم أنواع: منهم الطويل، ومنهم القصير، ومنهم الأسود، ومنهم الأبيض، ومنهم العربي، ومنهم الأعجمي، في ألوان مختلفة، وهذا المعنى دل عليه قول الله -جل وعلا-: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾85 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴾86 السبت: أصله القطع والمراد بهذه الآية: أن الله -جل وعلا- جعل النوم قطعا أو قاطعا لحركة الأبدان دون الأرواح، والبدن إذا انقطع عن الحركة فإنه تحصل له الراحة؛ ولهذا يفسر بعض المفسرين قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴾86 أي: جعلناه راحة؛ لأن الانقطاع عن الحركة مع بقاء الروح هذا يورث الراحة للبدن، أما إذا انقطعت الروح فإنه يكون الموت.
ولهذا كان النوم يسمى الوفاة الصغرى، والموت الوفاة الكبرى، إذا انقطعت حركة الإنسان مع روحه كانت الوفاة الكبرى، وإذا انقطعت حركة البدن دون الروح فهو الوفاة الصغرى، وهو النوم كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾87 فالتي لم تمت ويحين أجلها يتوفاها الله -عز وجل- بالنوم، ﴿ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾87 فالذي قدر الله -جل وعلا- له أن يموت يمسك الله -جل وعلا- روحه، والذي قدر الله -جل وعلا- له الحياة إذا نام فإن الله -جل وعلا- يرسل روحه، فيعود منتشرا في الأرض.
وقال الله -جل وعلا- في شأن الوفاة الصغرى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ﴾88 يعني: يجعلكم تنامون بالليل ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ﴾88 يعني: يبعثكم في النهار فهذا بعث مقابل للنوم، وهناك بعث مقابل للموت البعث المقبل للموت هذا إذا نفخ في الصور النفخة الثانية، والبعث المقابل للنوم هذا إذا استيقظ الإنسان من نومه وقد أرسل الله -جل وعلا- روحه ولم يمسكها ويقبضها إليه.
وهذا النوم من أعظم الآيات الدالة على إحياء الموتى، فصفة البعث يوم القيامة … أو يبعث الناس يوم القيامة هكذا، هم ميتون ثم يستيقظون، ينزل الله -جل وعلا- عليهم ماء من السماء فينبتون ويقومون لله رب العالمين، فهناك مشابهة بين البعث بعد الموت، وبين الاستيقاظ بعد النوم، فهذه الآية من أعظم الدلائل على إحياء الموتى؛ لأنه إذا كان الله -جل وعلا- قادرا على إيقاظ العبد وبعثه بعد النوم فهو -جل وعلا- قادر على أن يحييه بعد موته.
ولهذا كان في النوم من الفوائد والنعم على هذه الأمة الشيء الكثير، فهذا النوم قد جعله الله -جل وعلا- راحة للأبدان، وجعله -جل وعلا- تذكرة للعباد؛ ليتذكروا موتهم وبعثهم إلى الله -جل وعلا.
ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما ثبت عنه في سنته -عليه الصلاة والسلام- أنه كان إذا أراد أن ينام قال: « اللهم باسمك أموت وبك أحيا »89 ويقول: « باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين »90 .
وجعل الله -جل وعلا- في هذا النوم أيضا فائدة لعباده المؤمنين؛ إذ جعله -جل وعلا- لهم طمأنينة وسكينة حين التقوا مع أعدائهم في غزوة بدر وفي غزوة أحد، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ﴾91 والنعاس: هو أول النوم، جعلهم الله -جل وعلا- في نعاس حتى تطمئن قلوبهم.
وقال -جل وعلا-: ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾92 .
فهذا النوم قد يجعله الله -جل وعلا- طمأنينة وسكينة لعباده المؤمنين في قلوبهم؛ ولهذا كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت- يكون أحدهم ممسكا بالسيف في الغزوة فلا يستيقظ إلا والسيف يسقط من يده، وهذا من إنزال الله -جل وعلا- عليهم الطمأنينة بهذا النعاس.
فالشاهد أن هذا النوم فيه من الآيات والعظات والعبر ما يدل على وحدانية الله، وكمال قدرته على كل شيء.
ثم قال الله -جل وعلا-: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾93 يعني: جعل الله -عز وجل- الليل لباسا؛ لأن هذا الليل إذا غَشي الناس بظلمته عليهم يكون ساترا لهم كاللباس؛ ولهذا الناس يختفون فيه، فالإنسان يستر بدنه باللباس، وكذلك هذا الليل يستر الناس بظلامه.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾94 أي: وقتا للمعاش ينتشر فيه الناس، يقضون فيه مصالحهم، ويسعون فيه لأرزاقهم، يرعون فيه مواشيهم، ويطلبون فيه رزق الله -جل وعلا- وفضله.
وهذه الآيات الثلاث ذكرها الله -جل وعلا- مجتمعة في سورة الفرقان فقال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ﴾95 فقوله: ﴿ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ﴾95 يعني: ينتشر الخلق فيه لقضاء معائشهم.
وبين -جل وعلا- في آيات أخرى أنه صنع ذلك رحمة بخلقه، وبين لهم وظيفتي الليل والنهار، فقال -جل وعلا- في سورة القصص: ﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾96 فقوله: ﴿ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ﴾96 أي: في الليل وقوله: ﴿ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ﴾96 يعني: في النهار ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾96 تشكرون الله -جل وعلا- على هذا السكن، وتشكرون الله -جل وعلا- على أن جعل لكم هذا النهار الذي تبتغون فيه من فضله.
وقال -جل وعلا-: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾97 .
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴾98 يعني: بنينا فوقكم سبع سماوات محكمة في البناء والقوة، والذي بناها هو الله -جل وعلا- كما قال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾99 والأيد هنا: المراد بها القوة لأن قوله ﴿ بِأَيْدٍ ﴾99 هذا قال العلماء: مصدر مصدر آد يئيد، وليس جمع "يد".
قالوا: لأن الله لو أراد أنه بناها بيديه -جل وعلا- لقال: "بأيدينا" كان قال: "والسماء بنيناها بأيدينا" لكن لما قال: ﴿ بِأَيْدٍ ﴾99 …وجمهور المفسرين من الصحابة وغيرهم على أن المراد القوة فقوله: ﴿ بِأَيْدٍ ﴾99 هذا: من آد يئيد، بمعنى: قوي ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾99 .
فهذا الخلق من الله -جل وعلا- هو الذي بنى هذه السماوات وذكر -جل وعلا- في هذه الآية أنه جعلها سبعا، وهذا وارد في القرآن العظيم أن عدد السماوات سبع، كما في أول سورة المؤمنون: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ ﴾100 وفي آخر سورة الطلاق: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾101 وفي أوائل سورة تبارك: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ﴾102 وفي سورة نوح: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ﴾103 فهي سبع سماوات بكتاب الله -جل وعلا.
وبين -جل وعلا- في هذه الآية أنها محكمة في غاية القوة والإتقان، وقد بين -جل وعلا- هذا الإحكام والإتقان في قوله -سبحانه وتعالى- في أوائل سورة ق: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾104 وفي سورة تبارك: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾105 .
فهذه السماوات محكمة في البناء، ليس بها شقوق ولا خروق؛ لأن الذي خلقها هو الذي بيده ملك السماوات والأرض؛ ولهذا لو قلب الإنسان بصره في هذه السماوات ليلحظ فيها خرقا أو شقا لكَلّ بصره وعجز عن إدراك شيء؛ لأن هذا هو إتقان الله ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾106 .
ولهذا قال الله -جل وعلا- في سورة الأنبياء: ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾107 يعني: محفوظا من كل شيء لا يصل إليه خروق ولا شقوق ولا هدم ولا نقض، فالله -جل وعلا- جعلها سقفا محفوظا على الأرض، وهذا من شدتها وإتقانها وإحكامها.
وقد جاء في حديث العباس بن عبد المطلب المشهور بحديث الأوعال: « أن كل سماء كثافتها مسيرة خمس مائة عام »37 ولكن هذا الحديث حديث ضعيف هذا الحديث ضعيف، فيه راو مجهول، عبد الله بن عميرة راو مجهول وفي سند الحديث انقطاع؛ لأن عبد الله بن عميرة لم يسمع من الأحنف بن قيس، فهو حديث ضعيف.
والثابت: ما جاء عن
ابن مسعود -رضي الله عنه- من قوله:
« أن مسيرة ما بين كل سماء إلى السماء التي تليها خمس مائة عام »37
لكن ليس فيه بيان كثافة كل سماء.
وبعض المفسرين يورد حديث الأوعال، أو يشير إلى حديث الأوعال عند هذه الآية استدلالا على قوله تعالى: ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴾98 أن من شدتها أنها كثيفة كثافة مسيرة خمس مائة عام، لكن الحديث لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾108 والمراد بذلك: الشمس، والوهاج أو الوهج يجمع بين الشيئين، يجمع الحرارة والتلألؤ أو التوقد؛ ولهذا يقال: وهج النار، يجمع بين الحر والإضاءة، والشمس تجمع بينهما.
وفي حر الشمس فوائد عظيمة كما أن في إضاءتها فوائد عظيمة قد قال الله -جل وعلا- مطلع سورة يونس: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً ﴾109 ثم قال -جل وعلا:
… المنعصر بالمطر، لكن لم ينزل المطر بعد، قد تشبع بالمطر لكن المطر لم ينزل، كما يقال: امرأة معصر، يعني: إذا قاربت أن تحيض، وهذا هو الأظهر في معنى هذه الآية، أن المراد "بالمعصرات": هو السحاب؛ لأن الماء ينزل من السحاب كما ذكر الله -جل وعلا - ذلك في مواضع كثيرة.
كما قال تعالى في أواخر الروم: ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ﴾110 .
يعني: ترى المطر.. . وقال -جل وعلا - في سورة النور: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ﴾111 .
فالماء ينزل من السحاب، وكما قال -جل وعلا- في سورة الأعراف: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا ﴾112 يعني: حتى إذا حملت هذه الرياح سحابًا ثقالا ممتلئة بالماء ﴿ سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾112 .
وقال -جل وعلا - في سورة الواقعة: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾113 يعني بالمزن: السحاب.
فدلت هذه الآيات على أن المراد "بالمعصرات" في هذه الآية: هي السحاب، وأما من فسر "المعصرات" بأنها الرياح التي تحمل السحاب فهذا القول يخالف أكثر آيات القرآن؛ لأن الله -جل وعلا- أثبت أن نزول الماء إنما يكون من السحاب.
وقول الله -جل وعلا -في سورة الحجر: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾114 .
هذه الآية لا تدل على أن المطر ينزل من الرياح، وإنما تدل على أن هذه الرياح تلقح السحاب فينزل بإذن الله -جل وعلا - المطر؛ لأن الله قال: ﴿ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ﴾114 وما قال -جل وعلا-: "فأنزلنا من الرياح" قال: ﴿ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ ﴾114 والمراد بالسماء العلو، وتفسره الآيات الأخرى، وهو السحاب الذي جعله الله -جل وعلا - في العلو.
فقوله: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴾115 المراد به: السحاب وقوله -جل وعلا-: ﴿ ثَجَّاجًا ﴾115 يعني: منصبا بكثرة، الشيء إذا كان منصبا بكثرة يقال له: ثجاج، وهذا من كمال قدرته -جل وعلا .
ثم قال -جلا وعلا -: ﴿ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ﴾116 أي: لنخرج بهذا المطر الذي أنزله الله -جل وعلا - من السماء حبا، والمراد بالحب: هو ما ينبت من النبات وييبس ويُدخر، مثل: الحنطة والشعير والأرز والذرة والفول والعدس وغيرها من هذه الأشياء التي تيبس ولا يضرها يبسها، بل تبقى.
فهذا هو الحب سواء كان يأكلها الأنعام أو الأناسي.
وقوله: ﴿ وَنَبَاتًا ﴾116 .
النبات: هو الشيء الأخضر الرطب، سواء مما يأكله بنوا آدم أو يأكله الأنعام، فهو في حال رطوبته يسمى نباتًا ﴿ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾117 .
يعني: بساتين ملتفا بعضها على بعض.
وهذه الآية قد جاء مثلها في القرآن كثير، كما في سورة فاطر: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ﴾118 وقال -جل وعلا - في سورة النمل: ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾119 .
ثم إن الله -جل وعلا- لم يبين في هذه الآية من المنتفع بهذا الحب والنبات، وقد بينه -جلا وعلا - في آيات أخرى من كتابه، كما قال -جل وعلا - في سورة طه: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾120 .
ففي هذه الآية ﴿ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ﴾121 يعني: يأكله الأناسي، ويرعون أنعامهم.
وفي سورة النحل قال الله -جل وعلا-: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾122 يعني: ترعون ﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾123 ففي الآية الأولى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾121 أهل العقول الصحيحة السليمة، في هذه آيات لهم وعبر، آيات دالة على وحدانية الله، وعلى قدرته، وعلى بعثه الموتى.
وفي الآية في النحل: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾123 وهذا التذييل في مثل هذه الآيات يقتضي من الإنسان أن يعمل فكره في هذه الآيات؛ لأن إعمال الفكر في مثل هذه الآيات مما يزيده إيمانًا بالله -جل وعلا-.
وقال -جل وعلا - في سورة السجدة: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ﴾124 فدلت هذه الآيات على أن الله -جل وعلا - أنزل من السماء ماء فأخرج به هذه النباتات لينتفع بها بنو آدم، وترعى منها أنعامهم، وفي رعي أنعامهم انتفاع لبني آدم.
فهذه الآيات كلها دالة على وحدانية الله -جل وعلا - وكمال قدرته، ودالة على قدرته على إحياء الموتى بعد بعثهم، ودلائل إحياء الموتى بعد موتهم كثيرة جدًا في كتاب الله -جل وعلا.
وهذه الدلائل منها: أن الله -جل وعلا - استدل بالخلق الأول أو بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، فالذي خلق الإنسان من عدم قادر على أن ينشئه -جل وعلا - ويعيد خلقه مرة أخرى، كما قال -جل وعلا -: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴾125
وقال -جل وعلا-: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾126 وقال -جل وعلا-: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ ا