بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الكريم.. أختي العفيفة..
إدراكُ محبة الله للعبدِ منزلةٌ عظيمةٌ ومنةٌ جسيمةٌ وسعادةٌ أبدية وحياة طيبة زكية، على العبد الموفق السعيُ لنيلها بكل طريقٍ, محمدي ونهجٍ, نبويٍ, من سيرةِ وسنة المصطفى صحةً في الاعتقاد وسلامةً في التعبد وإحساناً في الأخلاق، وجملةُ ذلك في تحقيق الإيمان [ ] الصحيح، ومزاولةِ التقوى [ ] لله - جل وعلا - سراً وجهراً {أَلا إِنَّ أَولِيَاء اللَّهِ لاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ثبت في الصحيح عن أنسِ بنِ مالك - رضي الله عنهما - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال رسولُ الله \" ما أعددتَ لها \" فكأنَّ الرجلّ استكان ثم قال: يا رسول الله، ما أعددتُ لها من كثيرِ صلاةٍ, ولا صومٍ, ولا صدقة، ولكني أحبُ الله ورسوُله، فقال \" فأنت مع من أحببت \" [رواه البخاري] وفي روايةٍ, قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي [ ] \" فإنك مع من أحببت\" [رواه البخاري] وفي صحيح مسلم [ ] عن أنسٍ, أنه قال \" فأنا أحب اللهَ ورسوَله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكونَ معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم\" [رواه مسلم]
نعم.. إنها المحبة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص الآملون، وإلى أمِلها شمّر السابقون، وعليها تفانَ المحبون، وبروحِ نسيمها تروَّح العابدون، وهي قوتُ القلوبِ وغذاءُ الأرواحِ وقرةُ العيون، وهي الحياةُ التي من حُرمها فهو في جملةِ الأموات، والنورُ الذي من فقده فهو بحار الظلمات، والشفاءُ الذي من عدمه حلّت بقلبه جميعُ الأسقام، واللذةُ التي من لم يظفر بها فعيشه كلُه هموم وآلام.
ولنيلِ منزلة هذه المحبة، وحتى تكون محبوبا فقد ذكر العلماءُ أسباباً لتحصيلها وطُرقاً كثيرةً للفوز بها، أصولُ هذه الأسباب وقواعدُ هذه الطرقِ مردٌّها في المحاور التالية:
المحور الأول: قراءةُ القرآن بتدبرٍ, مع الفهمِ لمعانيه والتعقلِّ لأسراره وحكمه، ولهذا فإن رجلاً من أصحاب نبينا استجلب محبة الله بتلاوة صورةِ الإخلاص، فظلّ يرددها في صلواته، فلما سُئل عن ذلك قال: إنها صفةُ الرحمن، وأنا أحبُ أن أقرأها، فقال النبي [ ] \" فأخبروه أن الله يحبه\" [رواه البخاري].
المحور الثاني: التقربُ إلى الله - جل وعلا - بالنوافل، بعد الحرصِ العظيمِ على الالتزامِ بالواجبات والوقوفِ الجازمِ عند الحدود والفرائض، فرسولنا يحكي عن رب العزة - جل وعلا - أنه قال \" من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه\" [رواه البخاري].
المحور الثالث: دوام ذكر الله [ ] - جل وعلا - على كل حالٍ,، ذكرٌ باللسان [ ] والقلب [ ] والعمل، فربنا - جل وعلا - يقول {فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} ونبينا يقول \" إن الله - عز وجل - يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت به شفتاه\" [رواه ابن ماجه بسند صحيح].
المحور الرابع: إيثارُ محابِ الله - جل وعلا - ومحابِ رسوله على محاب النفس [ ] عند غلباتِ الهوى والتسنمُ إلى محافه - عز وجل - وإن صَعُب المرتقى، فيؤثر العبد رضا الرحمن - عز وجل - على رضا غيره، وإن عَظُمت فيه المحن، وثَقُلت فيه المؤن، وضَعُف عنه الطول والبدن، يقول ابنُ القيم - رحمه الله - \" إيثار رضا الله - جل وعلا - على غيرِه هو عن أن يريدَ العبد ويفعلَ فيه مرضاتُه، ولو أغضب الخلق، وهي درجة الإيثار، وأعلاها للرسل عليهم صلواتُ الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لسيد الخلق محمدٍ, \"
المحور الخامس: أن يطالعَ القلبُ أسماءَ الله وصفاتِه، وأن يشاهدها ويعرفها، ويتقلبَّ في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله - جل وعلا - بأسمائه وصفاته وأفعاله التي أثبتها الوحيان كما اعتقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُه ومن تبعهم بإحسان اعتقاداً كما جاءت في النصوص من غير تحريف ولا تعطيلٍ, ولا تمثيلٍ, ولا تكييفٍ, ولا تأويل أحبه الله - جل وعلا - وأكرمه وأرضاه، فربنا - جل وعلا - يقول مرغباً منادياً عباده {وَللَّهِ الأسمَاء الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا} وثبت عن المصطفى أنه قال \" إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة [ ] \" [رواه البخاري].
المحور السادس: مشاهدةُ برِّ الله - جل وعلا - بعباده، وإحسانِه عليهم، والتعرفِّ على آلائه ونعمه الظاهرةِ والباطنة، فإنها داعيةٌ إلى محبته - سبحانه -، فالإِنعام والبرُ واللطف معاني تَستَرِّقٌ مشاعرَ الإنسان، وتستولي على أحاسيسه، وتدفعه إلى محبة من يَسدِي إليه النعمة، ويُوصلُ إليه المعروف، ولا منعمَ على الحقيقةِ ولا محسنٍ, إلا الله، فالمحبوبُ في الحقيقةِ عند ذوي البصائر هو الله - جل وعلا -، والمُستَحِقٌّ للمحبةِ كلِها هو - سبحانه - وبحمده، وغيرُه فمحبوبٌ فيه - عز وجل -.
المحور السابع: انكسارُ القلبِ بكليته بين يدي الله - عز وجل -، والتذللُ له - سبحانه -، والخشوعُ لعظمته بالقول والبدن {قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ الَّذِينَ هُم فِى صَلاَتِهِم خَـاشِعُونَ ويقول عن خير الخلق إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الخَيراتِ وَيَدعُونَنَا رَغَباً وَرَهَبا}.
المحور الثامن: تحَيَّنُ وقفِ النزولِ الإلهي لمناجاته - جل وعلا - وتلاوةِ كلامه والتأدبُ بآداب العبودية بين يديه، ثم ختمُ ذلك بالاستغفار [ ] والتوبة [ ] النصوح إليه - سبحانه -، فأصحاب الليل هم أشرف أهل المحبةº لأن قيامهم في الليل بين يدي الله - جل وعلا - يجمع لهم جُلّ أسبابِ المحبةِ وأصولِها، ولهذا فلا عجبَ أن ينزلَ أمينُ السماء جبريلُ - عليه السلام - على أمين الأرض محمدٍ, ويقولُ له \" واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعِزَّه استغناؤه عن الناس\" [حديث صحيح].
المحور التاسع: محبةُ الصالحين والسعيُ من القرب منهم ومجالستُهم، فرسول الله يقول في الحديث الصحيح \" قال الله - عز وجل -: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ \" [رواه الطبراني في الأوسط(4 / 306) وصححه وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (1/243)] وفي الحديث الصحيح عن النبي [ ] \" أوثق عرى الإيمان [ ] الحب [ ] في الله والبغض في الله \" [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه]
المحور العاشر: البعدُ عن كل سببٍ, وطريقٍ, يحولُ بين القلب [ ] وبين الله - جل وعلا -، وذلك لا يتحقق ولا يكونُ إلا ببعدِ المسلمين والمؤمنين وبعدِ مجتمعاتهم عن أنواعِ السيئات وألوانِ المحرمات وصورِ الموبقات، فالقلوبُ إذا فسدت فلن تجدَ فائدةً فيما يُصلِحُها من شؤون دنياها، ولن تجدَ نفعاً أو كسباً في أُخراها {يَومَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ,}