القطار الأخير
لا شيء أبدا يوحي بالثقة ..وأقصى ما أدركه في سماء حزنه غصة وألم واندحار مريع.
أشبك أصابعه خلف ظهره ووقف يراقب المارة متدثرا بسقف المحطة.. وفي شبه ذهول وحسرة قفزت دمعة من مقلته وشقت طريقها على خده, لم يكن لديه منديل ,فأطلقها لجاريتها وصفائها ,وأكتفى باجترار غصته.
إنه الألم ولا شيء غير الألم ... هكذا قال لنفسه معزيا
لم تكن الساعة قد جاوزت الخامسة عصرا, وهو موعد انتهاء الدوام لذلك غصت المحطة بالمنتظرين ,ومع كثرة عددهم فإنه لم يعر الأمر انتباها, واستمر في مجاراة ذهوله وسطهم , فبدا كورقة شجرة يابسة تدروها رياح عصف قوي, وحين توقف القطار كانت الدمعة قد امتصت لونه, فبدا شاحبا مائلا للصفرة والشرود, لذلك لم يجد بدا من الغوص في مقعده و الاحتماء بالصمت .
لم يتجاوز بعد الثلاثين بقامة مديدة و نحيفة للغاية , وربطة عنق لا تفارقه أبدا وشعر بني مصفوف بعناية طبيعية ,وبشرة تجمع بين لون أبيض ولون قمحي.
احتمى بمقعده جنب النافدة, وما بدت منه غير عينين جاحظتين تجتران جزءا من زمن ولى,.. كطائر في سماء غريبة
تحرك القطار, وتحركت معه حرارة زائدة بين ضلوعه, وتملكه إحساس بغبن دفين , وكان يخشى أن لا تنفع سرعة القطار ولا قوته في قهر قوة القدر المحتوم , لذلك لم يجد بدا من الاستسلام ,وراح يقلب ناظريه بين المسافرين والعالم وراء النافدة بعيون جافة وناضبة , ثم زاد القطار من سرعته وعم صوت احتكاك الإطارات بالسكة , وخيم صمت رهيب على المقطورة وعلى الكون في مخيلته , ولم تعد تسمع إلا أصوات القطار وهو يلتهم قضبان السكة .
مسح بيديه جانب النافدة المواجهة له وقال لنفسه :
هذا يوم لم أضرب له حسابا .........وها هو الفؤاد يكتوي بجمرة دفينة لاهبة .
ثم مرت أوقات حارقة فقد فيها مقياس الزمن والوجود وغاب عقله إلى منزله صباه ومرتع طفولته حيت تقطن العائلة الكبيرة هناك بضواحي مدينة طنجة ...............
ورن هاتفه من جديد, فأرتعب جسده وتسارعت دقات قلبه بشدة, وكانت والدته في الجهة الأخرى وخاطبته قائلة:
-أين أنت الأن
-وبصوت مبحوح أجاب
- على متن القطار أنا قادم
-أكل هذا الوقت للوصول من مدينة الرباط هل أنت قادم فعلا أجبني بصراحة.
-أقسم بالله أني قادم إلا تسمعين صوت القطار.
ثم استمر في تقليب ناظريه بالمكان خلف الزجاج لعله يعرف موقعه, وكأنما أدركت السيدة أمامه مبتغاه فخاطبته قائلة:
- لقد تجاوزنا أصيلة لم يتبق الكثير
وعاد لهاتفه قائلا:
-تجاوزت أصيلة لم يتبقى الكثير كيف حالها الأن
-وتجيب الوالدة
-إنها في يد الله..... ولدي....... وبدا من صوتها أنها تغالب دموعها
فسالت دمعته عنوة وحفرت مجراها من جديد على خده وأجابها بصوت متحشرج:
-نعم ليكن الله معها
لم يسلم في جلسته من نظرات فاحصة ورحيمة للسيدة الجالسة أمامه فأحنى رأسه عاضا على شفتيه وقال وهو يكابد حرقة تعصر القلب والروح معا:
لا شيء غير الألم والحسرة , وواهم من يختبئ خلف النسيان...لا شيء ينسى أبدا.
كان ياسين يراقب السهول وهي تنسحب إلى الخلف مستجيبة لسرعة القطار ويجتر في مخيلته ما مضى .
هناك في بيت العائلة الكبير بضواحي مدينة طنجة كبر رفقة ابنة عمه خديجة .. لعبا معا ,ودرسا معا, ولسنوات طويلة من عمره جمعتهما المدرسة وأشجار الزيتون بالحقل , ومجلس الوالدتين.
ولأنه كان أخر عنقود والدته فقد كان الطفل المدلل في العائلة, فيما كانت خديجة أوسط إخوتها ومع ذلك فقد ولدا في سنة واحدة ...ولأنها كانت طيبة وصبيحة المحيا فقد تعلقت بها والدته التي لم ترزق بالإناث, وكانت تسعد دوما لرؤيتها رفقة ياسين.
ثم كبر الطفلان معا ........ وفي حديث مازح بين الوالدتين اتفقتا على أن ياسين لخديجة وخديجة لياسين... فكبر معهما شعور المحبة و أيضا شعور الارتباط, وحفر المزاح طريقه نحو الجد وتعلقا ببعضهما بشدة بالغة .
ورغم مشاكل الإرث التي نشبت بين أبيه وعمه حول المنزل الكبير ومن له الأحقية به, ووصولهما إلى المحكمة في تبادل للدعاوي فقد ظل يلاقيها خفية وبعلم الوالدتين في انتظار أفق منشود ,فكانت عقله وحياته وكانت الدراسة سبيلهما الوحيد للتلاقي إلى أن توقفت عنها بسب رسوبها المتكرر.
ثم شاءت الظروف أن ينتقل ياسين بعد تخرجه من كلية الصيدلة إلى مدينة الرباط للعمل بشركة لتصنيع الدواء لينشغل بعمله الجديد , ومرت سنة كاملة لم يرها فيها وقلت اتصالاته بها حتى بالهاتف الذي منعوه عنها , وكانت الوالدتان خيط الصلة بينهما فقط وأحيانا كان يتحدث إليها عبر هاتف والدتها في غياب الأب , وعلم من والدته أنهم حاولوا تزويجها لكنها رفضت بشدة .
وفي سنته الثانية كان قد تمكن من تحسين وضعيته وتوفير مسكن لائق, فسارع إلى مدينته مسقط رأسه ورفقة الوالدة و الإخوة وعلى رأسهم أخوه الأكبر إبراهيم وزوجته زبيدة وأخوه الأوسط مصطفى وزوجته مريم,وبغياب الأب تقدموا إلى منزل عمهم طالبين خديجة زوجة لياسين, وقالوا أنها جزء منهم وأن لا شيء سيحبسها عنهم, وأنه جاؤوا لأجلها بعيدا عن الخلافات الكبيرة والنزاع بين الأخوين , واستقبلتهم والدتها بالزغاريد وفرحة جلية ودمعة لا منتهية, وأدخلتهم الدار السفلية , أما خديجة فبدت صفحة مضاءة من شدة فرحتها وتسرب إلى محياها نور من أنوار سعادة مغصوبة. وهتف قلبها بمشاعر من سنوات خلت.
ونزل العم من الدور العلوي دون أي تحية مقتضبا كلماته الحاسمة , وطرد الجميع لاعنا زوجته التي أدخلتهم , دون أن تنفع معه توسلات الوالدتين والإخوة , وأقسم الأيمان أن ابنته لن تتزوج ابن أخيه إلى أن يموت.
كان موقفا لم يسبق لياسين أن وقع فيه , لذلك تملكته صعقة كبيرة وإحساس بقهر غالب وغاية ما أحتفظ به من ذلك اليوم جرح كبير نازف, وتوقف الدم في وجهه وخطفت عينيه نظرة لوجه خديجه لن ينساها أبدا.................
..كانت ورقة شاحبة تسلك طريقها إلى الموت
رن الهاتف في جيبه من جديد والوالدة على الجهة الأخرى في شبه صراخ وعصبية فأيقظه ذلك من ذكرياته واستبقته قائلة :
-أين أنت.
-قادم قادم قادم كيف حالها
-لا جديد يا ولدي وليس من شيء في فمها غير اسمك ... أرجوك لا تبطئ
-أنا في الطريق... ولتكن مشيئة الرحمن
ثم أقفل الخط بيد مرتعشة
ثم أغمض عينين جاحظتين وعاد لذكرياته
مرت سنة أخرى على رفض عمه زواجه بخديجة , لكنه لم ييأس و عاود إرسال والدته لعل القلوب تلين دون أي نتيجة, ومرضت خديجة ولازمها سقم متسلل دون أن يغير العم موقفه , ومع انشغاله بعمله الجديد بمدينة الرباط فقد بدأت زياراته تخفت , وكذلك اتصالاته الخفية عبر هاتف الوالدة , وكان يستسقي أخبار ها فقط من أحاديثه مع والدته وكان جوابها دوما أنها على حالها.
و لم يملك حلا غير الانتظار وكان يمني نفسه بأن تجود الأيام بما يفك كربة القلوب.
وفي زيارته الأخيرة تلك السنة لمنزل العائلة فاض به الأمر , وغمرته موجة غبن وقهر, فهجم على منزل عمه وركل الباب بقدميه وصرخ وهاج وماج أمام الدار طالبا رؤيتها بحضور أخويه إبراهيم ومصطفى دون جدوى خصوصا بعد أن علم أنها قطعت كلامها, وأطل العم من جديد ونعتهم بالكلاب الضالة قائلا:
-اذهب أيها الكلب ابن الكلب وابحث عن كلبة من مقامك فأنا لا أزوج ابنتي لأمثالك
ولعن قرابته بهم تم أختفى في نافذته
التف حولهم أهل القرية طالبن منهم لعن الشيطان والمغادرة وإحترام رغبة الأب وقال محفوظ صاحب الذكان في سخرية
عشنا لنرى الزواج بالقوة
وعلم الأب بما صار له رفقة إخوته وما جلبوه له من مذلة في القرية , فأشبعهم سبا بدوره لتحقيرهم له, وتمسكهم بفتاة يرفض أبوها تزويجها لهم , وأقسم إخوته أنهم لن يرافقوه أبدا إلى دار العم خصوصا بعد إهانتهم أمام زوجاتهم, فرجع أدراجه إلى مدينة الرباط وقرر أن يرد اعتبار أبيه وإخوته .
وفي سنته الثالثة , تزوج من رفيقته في العمل صفاء ابنة مدينة الرباط بمباركة أبيه ومعارضة والدته التي تعلق قلبها دوما بخديجة, وطار الخبر مع الريح إلى المنزل الكبير , ومنه إلى منزل العم وتسلل إلى غرفة خديجة الطريحة دون أن يراها أحد أو يعلم لها خبرا, غير ما ترويه والدتها من سقمها .
ثم أنشغل ياسين عن المنزل الكبير ,وخفتت أخباره وغرق في بحر زواجه الجديد نصف سنته الثالثة ومجمل سنة الرابعة التي كان ينتظر فيها مولوده الجديد إلى أن جاء يوم و رن هاتف من المنزل الكبير من والدته وخاطبته قائلة :
-خديجة تحتظر على فراش الموت وتطلب رؤيتك
و كزورق ورقي أنتشل من طاولة زينة وألقي في بحر هادر, تبدلت مشاعره وفاض هدوءه الزائف وعاد به الزمن لسنوات مضت وسال جرحه النازف من جديد
كانت أصابعه ترتعش وهو يجيب:
تموت ... تموت كيف هذا هل هذا معقول..... وهل نطقت؟
-نعم ..وفي فمها كلمة واحدة هي اسمك عجل بالحضور أرجوك فزوجة عمك بالمنزل تتوسل إليك بالحضور لتراك خديجة
-حاضر أمي سأغادر العمل حالا وأستقل أول قطار.
ووصل القطار إلى محطة طنجة وكانت العاملة تردد -محطة طنجة المدينة- حين رن الهاتف من جديد وضغط على الزر لتنبعث منه أصوات الصراخ والعويل ............. بالمنزل الكبير
منقول