انتشار الحاسوب بشكل سريع، وتغلغله في حياتنا العملية واليومية، يطرح علينا بإلحاح عدة إشكاليات تتعلق بفهم هذا الكائن التكنولوجي، وكيفية التعامل معه. وتتراوح هذه الإشكاليات بين صيانة كرامة العقل الإنساني ومستقبل حرية فكره، وإهدار قيمة الحاسوب وتبديد قدراته العلمية. وهي مسائل في حاجة إلى تأمل جاد ونظرة مدققة • "إن عالمنا يفخر بآلات تفكر، ولكن يشك في انسان يفكر" هوارد جونس
يرى المفكر الكندي مارشال ماكلوهن أن الإنسان، وقوفا عند مقدرته البيولوجية ولتلبية حاجياته المتزايدة يوما عن يوم، ابتكر من الآلات ما تستطيع القيام بما تعجز يده أو باقي أعضائه المجردة عن القيام به. وبالتالي، فإن هذه الابتكارات هي امتداد تكنولوجي لأعضائه البيولوجية. فالسيارة، مثلا، امتداد تكنولوجي لقدمي الإنسان، والهاتف امتداد تكنولوجي لأذنيه
وعلى أساس هذه النظرية، يمكن اعتبار الحاسوب (أو الكومنيوتر) امتدادا تكنولوجيا للعقل البشري. فالعقل البشري يقف عند حدود الزمان والمكان والقدرة الاستيعابية للذاكرة. وكان لابد من التغلب على هذه العراقيل ليصل الإنسان إلى ما وصل إليه من تقدم في كافة المجالات
ففي ما يتعلق بالزمن، يقدر الوقت الذي يستغرقه الحاسوب في أداء أي من عملياته بجزء من المليون من الثانية. وبالتالي، بإمكان الحاسوب إنجاز ملايين من العمليات الحسابية في ثوان معدودة، ربما كلفت العقل البشري المجرد عشرات السنين. وتوفر عملية برمجة الحواسيب وتنفيذها لأوامر البرمجة إمكانية تجاوز الحدود الطبيعية لقدرة الإنسان، وخير مثال على ذلك المركبات الفضائية والأقمار الاصطناعية، فلولا الحواسيب لما استطاعت طي كل تلك المسافات التي قطعتها. أما مجال تخزين المعلومات، فالإمكانيات التي تتيحها الحواسيب تفوق كل تصور أو تقدي
فهذا الامتداد التكنولوجي، المتسارع التطور، يفتح آفاقا أكثر تقدما في جميع المجالات، التي يصطدم فيها العقل البشري بحاجزي الزمان والمكان، فينوب عنه ويطوعهما له، ويخضعهما لرغب
أهم المحطات في حياة الحاسوب
في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، أعلن "شارلز بابج" عن اختراعه لآلة حسابية تستخدم لحل المعادلات الرياضية. وكانت هذه الآلة التي، أطلق عليها الآلة التحليلية، هي أول تصور لآلة حاسبة مركبة تصلح للقيام بأغراض متعددة، بل هو نفس التصور الذي قامت عليه وظائف الكومبيوترات الحديثة. ففي الآلة التحليلية كان هناك قسم لإدخال المعلومات بواسطة البطاقات المثقبة، وقسم لمعالجة البيانات الرياضية، وقسم لخزن المعلومات والنتائج، وقسم للتحكم في تتابع العمليات، وجزء لإخراج النتائج . لكن "بابج " توفي سنة 1871، قبل أن يحقق حلمه في بناء هذا الحاسوب الميكانيكي
في سنة 1880، جرى بالولايات المتحدة الأمريكية إحصاء للسكان، غير أن نتائج الإحصاء لم تظهر إلا بعد سبع سنوات، مما جعلها معلومات قديمة . وكان إحصاء السكان يجري في الولايات المتحدة مرة كل عشر سنوات. وهكذا دفعت متطلبات هذا الإحصاء بالحكومة الأمريكية إلى إعلان مسابقة لتصميم وصناعة آلة حاسبة لجدولة المعلومات الإحصائية وتحليلها وإعطاء نتائجها بشكل سريع. وفاز في المسابقة هيرمان هوليريث، الذي صمم وصنع آلة حاسبة جديدة تعتمد البطاقات المثقبة. وبفضلها ظهرت نتائج احصاء 1890 في ظرف ستة أسابيع فقط • وقام هوليريث، عقب ذلك، بإنشاء شركة لصناعة الآلات الحاسبة، وهي الشركة التي تحولت فيما بعد إلى شركة الأعمال العالمية المعروفة (إي بي إم)
وفي الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، شهدت كل من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، محاولات عديدة لاستخدام المفاتيح الكهربائية والصمامات الكهربائية، بدل المفاتيح الميكانيكية، لزيادة سرعة هذه الآلات الحاسبة• وتم بالفعل إنتاج حاسبات كهربائية أفضل من حيث السرعة، والأداء، وتخزين المعلومات والاستجابة للقيام بعمليات مختلفة. ومن أبرز هذه المحاولات تجربة الألماني كونراد زوسي سنة 1943، الذي قام باستخدام المفاتيح الكهربائية، واعتمد الحساب الثنائي بدل الحساب العشري، واستخدم الأشرطة المثقبة لإدخال المعلومات. والحاسوب الرقمي الذي أنجزه الأمريكي هـايكن س. وآلة تورنج التي قامت الحكومة البريطانية بوضعها خلال الحرب العالمية الثانية لفك الشفرة الألمانية
في سنة 1948، تم الإعلان عن اختراع الترانزستور، الذي يمتاز بصغر حجمه، وكفاءته العالية، وحاجته القليلة جدا للطاقة. وكل هذه الخصائص، جعلت من الترانزستور الأداة الأكثر ملاءمة للاستخدام في الحاسبات الآلية، التي انتقلت من الجيل الميكانيكي إلى الجيل الإلكتروني. وبعد عقد من إعلان هذا الاختراع، تم إنتاج الدوائر المتكاملة ، حيث أصبح بالإمكان صنع دائرة إلكترونية متكاملة تضم العديد من الترانزستورات والمكثفات والمقاومات الكهربائية على سطح رقيقة من السليكون.
في سنة 1959، نجحت التكنولوجيا في تطوير نوع جديد من الدوائر الالكترونية ، الذي لم يأخذ طريقه إلى الأسواق حتى سنة 1970، حيث أصبح بإمكان قطعة صغيرة، تحتل مساحة قدرها سنتميتر مربع واحد، أن تؤدي عمل دوائر إلكترونية تتكون من آلاف الترانزستورات • ومكنت هذه التكنولوجيا من خفض كلفة الحاسوب أكثر من ألف مرة.
وخلال السبعينات، أحدث اختراع المعالج الدقيق (ميكروبروسيسور) تطورا جذريا في الهندسة الإلكترونية، وثورة تكنولوجية بلا نظير . وهو ما جعل تطور الحاسوب يشق طريقه باندفاع هائل، واستطاع تحسين فاعليته، وتطوير قدرته على أداء العديد من الخدمات للكثير من الناس، وأخذ شكلا صغيرا مناسبا، وأصبحت كلفته في متناول العديد من راغبيه.
ولتصور حجم هذا التطور، تكفي الإشارة إلى أن الآلة التي استعملت، سنة 1950، في الإحصاء الأمريكي كانت تحتوي على 18 ألف صمام الكتروني، وتزن 30 طنا، وتحتل مساحة تتجاوز مائتي متر مربع.
وموازاة مع ذلك، تطورت لغات برمجة الحاسوب عبر هذه السنين، فانتقلت من أرقام معقدة يصعب حفظها والتعامل معها، إلى كلمات مفهومة، وتعبيرات رياضية يسهل على كل راغب تعلمها بسرعة
نحن والحاسوب
وهكذا طُوّرت الحواسيب، وتم تبسيط طرق ووسائل استعمالها، بشكل يمكن الجميع من استخدامها، ويسهل حتى على المديرين التعامل معها. وبعد أن ولجت غالبية قطاعات العمل، أصبحت تنتشر بشكل سريع داخل المنازل، وتأخذ لها مكانا مميزا بين أثاث البيت، حيث يقبل عليها الشباب والأطفال ويتزاحمون حولها بالمناكب. فالحاسوب يُهيأ لأن يكون المدبر لشؤون البيت، والمسير لعلاقاته الداخلية والخارجية، والآمر الناهي في كل تجهيزاته. ولاشك أنه سيكون لهذا الكائن التكنولوجي تأثير على حياتنا، وعملنا، وسلوكنا. وسنشهد تغيرات في الحياة العائلية، والقيم، وأسلوب الحياة، وحتى في إيقاعات الحياة اليومية.
أما داخل الإدارات، أصبح الحاسوب ينتشر،كذلك، بشكل سريع؛ بعد أن كان يلقى نوعا من المعارضة والمقاومة لدى البعض (والمرء عدو ما جهله)، والتردد وعدم التحمس لدى البعض الآخر، لأسباب مختلفة . وقال رئيس مصلحة لموظفيه، يطمئنهم بمناسبة اقتناء المصلحة لعدد من الحواسيب: "هذه الحواسيب لن تقوم مقام أي منكم، فلم يتم بعد اختراع آلة لا تفعل شيئا". وتوقع أحد المتشائمين أن تقتصر إدارات المستقبل، في عملها، على إنسان وكلب وحاسوب• الحاسوب ليعمل، والإنسان ليطعم الكلب، والكلب ليمنع الإنسان من الاقتراب من الحاسوب.
ورغم ولوج الحواسيب إلى عدد من المرافق الإدارية، فلم تنل بعد الثقة لتحمل مسؤولية معالجة الملفات والقضايا داخل الأقسام والمصالح، التي هي في حاجة ماسة إليها، بل تظل في غالب الأحيان حبيسة السكرتاريات، مقتصرة على الرقن، أو مرتاحة مزهوة، على مكاتب المسؤولين، يتباهى بها بعضهم على بعض ويتفاخر بالثقافة التكنولوجية، وهي منهم براء. وربما لأنها لم ترقى بعد إلى مستوى العمل الإداري الذي يخولها أن تنسب أخطاءها إلى حاسوب آخر