الديموقراطية
تقوم الديمقراطية، بوصفها حقيقة نظام الحكم، على مبدأ النظام العام قبل أي شيء آخر، النظام في معارضة العشوائية والفوضى، وإنه لمن المتعذر إيجاد تفسير مقنع لتنظيم المجتمع غير تنظيم العمل والإنتاج الاجتماعي. وإذا كان الالتقاط والصيد والرعي والزراعة والحرفة والصناعة درجات في سلم نمو العمل البشري وارتقائه، فإن التنظيم الاجتماعي الحديث هو انعكاس لتنظيم العمل في المجتمع الصناعي القائم على أساس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، على الرغم من اتساع دائرة ملكية الدولة الرأسمالية والمرسملة، وعلى أساس العمل الأجير، أحدث أشكال العبودية والاستغلال وأكثرها غموضاً وخفاء، هذه الأشكال التي تجد تعبيرها في الاستلاب السلعي "السلعة صنم" وصورته السياسية الرمزية "السلطة صنم".
يقول ماركس: "الفوضى هي قانون المجتمع المدني المنعتق من الامتيازات التي تقسم المجتمع، وفوضى المجتمع المدني هي أساس الحالة الحقوقية العامة المعاصرة، مثلما الحالة الحقوقية العامة المعاصرة هي، من جهتها، ضمانة هذه الفوضى، وهما تشترطان إحداهما الأخرى بالقدر نفسه والدرجة نفسها اللذين تناقضان بهما إحداهما الأخرى". (ماركس وإنجلز، العائلة المقدسة) هذا النظام أو التنظيم تفرضه في المجتمع المدني الضرورة الطبيعية والضرورة الاجتماعية السياسية وخصائص الكائن البشري، وفي مقدمتها المصلحة الفردية والخاصة والعامة، أيا كنت الصورة المغتربة التي تظهر بها. فالمجتمع هو الذي ينتج النظام وليس النظام هو الذي ينتج المجتمع، من حيث المبدأ والأساس، إلا بالمعنى الذي تتحول معه النتيجة إلى سبب. المجتمع هو الذي ينتج قانونه الخاص وحياته السياسية الخاصة مثلما ينتج وجوده الاجتماعي ومعاشه وتمثيلاته الثقافية. ولعل السمة المميزة للمجتمع المدني هي وحدته التناقضية، الديالكتيكية، التي تتجلى أول ما تتجلى في الحالة الحقوقية العامة، في القانون بصفته العامة والمجردة ، فالقانون، بهذه الصفة، هو مبدأ وحدة المجتمع ومعيار انتقاله من نظام الامتيازات والواجبات إلى نظام الحقوق، من نظام الجماعات المغلقة وطوائف الحرف والمتحدات التقليدية التي تعزل الأفراد عن الكل الاجتماعي، إلى التحرر من سلاسل الامتيازات والواجبات وأطر الجماعات والفئات المغلقة، هذا التحرر، الذي على الرغم من طابع الفوضى والعشوائية الناجم عن تحرر الأفراد، وانعتاقهم من الروابط الأولية، هو عملية اندماج في الكل الاجتماعي وفي النظام العام. الفرد المنعتق من الروابط الأولية هو أساس المجتمع المدني الحديث، وأساس الدولة الوطنية.
اعتراف المجتمع الحديث بالفرد المدني وحقوق الإنسان، المقدمتين الأساسيتين للمجتمع المدني، يجد أساسه في اعترافه بحق الملكية الفردية الخاصة وحريتها، بما في ذلك ملكية العامل لقوة عمله، إذ صار العمل نفسه حقاً من حقوق الإنسان، لا واجباً عليه. "إن الاعتراف بالفرد المدني الأناني وبالحركة الجامحة للعناصر الروحية والمادية التي تشكل مضمون الوضع الحياتي لهذا الفرد، هو مضمون الحياة المدنية المعاصرة، وإن حقوق الإنسان لا تحرر، بالتالي، الإنسان من الدين؛ فهي لا تفعل غير أن تمنحه حرية الدين، وإنها لا تحرره من الملكية، بل تمنحه حرية الملكية، وإنها لا تحرره من الركض القذر وراء الكسب، بل تمنحه حرية الحرفة وحسب". (ماركس وإنجلز – العائلة المقدسة – عن ماركس وإنجلز، بصدد الدولة، ص 111)
يبدأ جنين المجتمع المدني بالتشكل عندما تحل الحقوق المرتبطة بالعمل أو بالحياة العملية التي تعطي العمل مضمونه وأطره، وتحدد أهدافه وغاياته، محل الروابط المثالية المفترضة لحمة اجتماعية، اللوغوس، الله أو الكلمة، الدين أو العقيدة، أو أي مبدأ مفارق ومتعال، أو أي مبدأ طبيعي من المبادئ التي قامت عليها الجماعات المغلقة ما قبل الوطنية أو ما قبل القومية. المجتمع المدني يستبعد أي مبدأ مفارق ومتعال، وأي مبدأ طبيعي، بالقدر نفسه، لأنه إنسان صنعي. والحقوق المدنية، مفهومة على هذا النحو، ولا سيما حق التملك، هي التعيُّن الأول للحرية، بما هي موضوعية الإرادة؛ ومن ثم فإن الحقوق المدنية تقتضي منظومة موازية ومكافئة من الحريات الأساسية. وحين يبدأ التشريع بالتطابق مع الواقع الفعلي الموضوعي، أي حين يصير القانون روح الجماعة ومبدأ وحدتها، ولا تعود الروابط التقليدية، روابط الدم والنسب والدين والمذهب وغيرها، روابط سياسية، بل روابط اجتماعية تدخل في تضاد مع الروابط السياسية، وإن إلغاء وجودها السياسي هو كإلغاء الوجود السياسي للملكية الخاصة، يعني تركها تنمو وتتطور وفق قوانينها الخاصة الداخلية. ويتوقف ذلك على عمليتين تبدوان متناقضتين شكلاً، هما استقلال مجالات الحياة الاجتماعية، وتقدم عملية الاندماج الاجتماعي أو الاندماج القومي.
وهذا يعني أن المجتمع المدني يقوم على مبدأ المنفعة أو المصلحة مفهومة فهماً صحيحاً، وعلى الحقوق في الوقت ذاته، وليس من تضاد بين النفع الخاص والنفع العام، بل ثمة تعارض جدلي بينهما، إذ إن أحدهما لا يقوم إلا بالآخر، ولا يستطيع، من ثم أن يلغي الآخر أو يدمره من دون أن يلغي نفسه ويدمرها، ذلك لأن النفع العام لا يعدو كونه النفع المشترك بين الأفراد المتماثلين والمختلفين في الوقت نفسه. فالعام هو بالتحديد عنصر التشابه والتماثل القائم في الواقع بين الأفراد المختلفين، وهو وحدة الاختلاف الجدلية التي تنبع من الجوهر الإنساني، من الماهية الإنسانية، ومن البعد الاجتماعي لكل فرد على حدة، بلا استثناء.
حرية الفرد وحقوق الإنسان، بوصفهما مقدمتين ضروريتين للمجتمع المدني، مشروطتان بالمساواة. ولكن المساواة ما تزال بعد نظرية، ووهمية، على الرغم من أساسها الوجودي (الأنطولوجي) وسندها الأخلاقي المؤكد بقوة في الدين التوحيدي، وعلى الرغم من أساسها الواقعي المستند إلى تساوي العمل البشري المعبر عنه بقانون القيمة المشتق من مفهوم العمل الاجتماعي. لذلك كان أول تحقيق فعلي للمساواة هو المساواة أمام القانون. وكما أن الله هو مبدأ وحدة الكون والعالم، كذلك فإن القانون هو مبدأ وحدة المجتمع وضمانة المساواة السياسية المتعارضة بالطبع مع واقع عدم المساواة الاجتماعية. هذا التعارض يعبر عنه بالتعارض بين الدولة الديمقراطية التمثيلية والمجتمع المدني، بين الاتحاد الحقوقي العام والعبودية الجديدة المغطاة بورود الرأسمالية، ولا سيما الاحتكارية منها. فكرة الله تحمل فكرة سمو القانون الذي يحمل فكرة الكل الاجتماعي المحدِّد لسائر الأجزاء والأفراد. القانون هو الذي يعين الحدود بين المصلحة الفردية الخاصة والمصلحة العامة من زاوية أهمية المصلحة العامة وأولويتها وجذريتها. المصلحة العامة هي التي بوسعها أن تشرع القوانين لأنها كلية لا ينتج عنها إلا الكلي. أما المصلحة الخاصة فليس لها أن تضع القوانين؛ لأنها جزئية والجزئي لا ينتج عنه غير الجزئي، ولأنها غريزية عمياء لا تعرف حداً، وأحادية الجانب، طبيعية وغير قانونية، فهل بوسع اللاقانونية أن تشرع القوانين؟ إن جذر الاستبداد يكمن في تغليب المصلحة الخاصة أو الفردية على المصلحة العامة، وفي تنطع اللاقانونية لتشريع القوانين، وغلبة العنصر الطبيعي الوحشي على العنصر الإنساني المدني المتحضر.
انتقال الإنسان من الحياة الطبيعية البدائية أو البدوية، أي من الحياة في الطبيعة إلى الحياة الاجتماعية أو إلى الحياة في المجتمع، ثم في المجتمع المدني هو انتقال من العشوائية والفوضى واللاقانونية إلى القانونية والانتظام، وهما، أي القانونية والانتظام، يحدَّان، بلا شك، من حرية الأفراد المطلقة، الذاتية، ويحلان بدلاً منها حرية موضوعية تعبر عنها الدولة المركزية، والمركزية هي مبدأ الدولة السياسية. إلا أن الحرية الموضوعية (النسبية) تتحدد دوماً بالحرية الذاتية (المطلقة) وبهذا تدخل الحرية في الصيرورة التاريخية. المطلق حد يحد النسبي، ويضمن نمو وتطوره. ومن ليس عنده، في فكره وفي روحه، المطلق يحول نسبيَّه إلى مطلق؛ وذلكم هو الاستبداد.
الأساس الوجودي للحرية، أي الحرية الذاتية، لا ينتفي في المجتمع والدولة، بل يدخل في تعارض جدلي مع الحرية الموضوعية، تعارض لا يجد له حلا نهائيا إلا باضمحلال الدولة السياسية والمجتمع المدني معاً وبزوغ الدولة المادية والمجتمع المؤنسن أو الإنسانية الاجتماعية بدلاً منهما.
عدم المساواة الاجتماعية هو أبرز سمات المجتمع المدني القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وعلى العمل الأجير، ومن ثم على اغتراب الإنسان وتشييئه، وهي ما تجعل منه مجتمعاً عبودياً جديداً. لذلك فإن رهان الديموقراطية التاريخي هو الحرية، أي تطابق النظام العام مع الحرية، وصيرورة القانون تعبيراً فعلياً عن الروح الإنساني، أو صيرورته قانون الروح الإنساني ذاته، قانون الإنسان وقد استعاد في ذاته موضوعية العالم واستعاد ذاته الضائعة في الوقت نفسه.
ربما كانت فكرة القانون، ثم سيادة القانون على الحاكم والمحكوم، أولى تظاهرات العقلانية في الفكر السياسي. والديمقراطية ترتبط أوثق ارتباط بالعقلانية، لذلك ستكون فكرة القانون وسيادة القانون نواة فكرة سيادة الشعب، أي انبثاق الدولة عن المجتمع وحضوره فيها من خلال السلطة التشريعية والسلطة القضائية التي تتوسط المؤسستين التشريعية والتنفيذية، وانبثاق السلطة عن الشعب بالانتخاب الحر المباشر.
وقد اتفق رجال السياسة ورجال الفكر، منذ وقت مبكر على أن "النظام في ظل القانون واحترامه هو الضمان الوحيد لحياة سياسية سليمة، وبدأت، منذ وقت مبكر أيضا عملية التوفيق بين العقل بوصفه المبدأ المنظم للعالم والقانون بوصفه المبدأ المنظم للمجتمع" وكشفت التجربة التاريخية في كل مكان من عالمنا المعاصر أن القانون هو النواة الأعمق لوحدة المجتمع والدولة، وأن الدول التي انهارت هي إما دول غاب عنها القانون أو غيَّب وإما دول فقدت وحدة القانون. ولما كان القانون روح الشعب فإنه قوام الدولة وجوهرها وماهيتها، بفقدانه تكف الدولة عن كونها دولة وتتحول إلى مجرد سلطة طاغية غريبة عن الشعب ومعادية له. فإن خضوع الإنسان للنظام والقانون بدلاً من خضوعه لرجل مثله هو تعبير مبكر عن حقيقة أن الإنسان حين يلتزم القانون ويطيعه ويعمل بمقتضاه إنما يعمل بمقتضى عقله وضميره. ومقولة "الله أكبر" تؤكد مقولة سمو القانون الكلي والعام. والتعارض بين سيادة القانون وسيادة الحاكم هو تعبير مباشر عن التعارض بين حقيقة الدولة المادية الموضوعية وشكلها السياسي، بين الديمقراطية وسائر أنظمة الحكم الأخرى، ولا سيما أنظمة الاستبداد.
كما أن حلول القانون مبدأ موحداً للمجتمع والشعب ومنظماً للدولة، يعيِّن وظائفها ويحدِّد مجالات سلطتها، محل آلهة العدالة، كان نقلة كبيرة في الفكر السياسي، وفي حياة المجتمع التي لم تعد تجربة دينية خالصة، بل تجربة سياسية يحتل فيها الدين موقعاً مهماً بالطبع، إن لم نقل أساسياً. ولم يعد بالإمكان تصور وجود نظام خارج نطاق القانون الذي يضعه البشر لنفسهم، إلا في المجتمعات المتأخرة التي تقبع على هامش العصر وعلى هامش التاريخ، إن لم يكن خارج التاريخ.
على أنه لا يجوز إغفال أثر الدين في نشأة الاجتماع البشري ونشأة النظام والقانون، فبالإيمان الديني امتاز الإنسان من الحيوان، وكان الدين نفسه هو العقل والفكر وبه ارتبطت جميع أشكال الإبداع، وكان الحلال والحرام والجائز والمحظور .. وكانت الوصايا الأخلاقية أساس التنظيم الاجتماعي، وكانت الآلهة، ثم الإله الواحد، تعبيراً رمزياً عن وحدة الجماعة ووحدة الحاضرة (المدينة) ووحدة الدولة فيما بعد. وكان الإله الواحد قبل هذا وذاك مبدأ وحدة الكون ووحدة العالم. وما يزال الدين إلى يومنا هذا رابطة قوية بين أتباعه تبلغ في معظم الأحيان مبلغ العصبية، ووازعاً داخلياً لدى المؤمنين هو أساس الضمير الأخلاقي لدى الفرد والجماعة. ولا بد من توكيد حقيقة أن الدين هو الذي انتشل الإنسان من الوحشية والافتراس وسما به إلى مرتبة الإنسان الاجتماعي. ويمكن اليوم جعله رافعة للارتقاء بالإنسان إلى مستويات أخلاقية عليا. بدلاً من تحويله إلى أداة سياسية دنيئة وإلى نسق لتوليد العنف وتسويغه. الدين الذي انتشل الإنسان من الوحشية والافتراس لا يسوغ العنف والقتل والانتكاس إلى الوحشية من جديد. على أن وحدة الدين والفكر التي أشرنا إليها هي وحدة اختلافهما وتعارضهما الجدلي، مثلما وحدة الدين والقانون والطبيعة أو الفطرة هي اختلاف القانون عن الدين وعن الطبيعة (= الفطرة) وتعارضه معهما. لذلك فإن نزع هالة الألوهية وصفة القداسة عن القانون كانت أول خطوة عقلانية في التاريخ وفي تاريخ الفكر السياسي خاصة.