﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾
[ سورة النحل ]
هل من خطيبٍ في مشارق الأرض ومغاربها إلا ويذكّر المصلّين في آخر الخطبة بهذه الآية، فماذا تنطوي عليه هذه الآية ؟ إنّ الله علَمٌ على الذات واجب الوجوب، صاحب الأسماء الحسنى، وخالق الكون، ورافع السماوات بغير عمَدٍ.
ويا أيها الإخوة المؤمنون، قيمة الأمْر من قيمة الآمر، إذا وُجِّهَ لك أمر فأنت تهتمّ به على قدْر الآمر، إنّ الله يأمر ؛ جاء امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام تشْكو زوجها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلّم لو تراجعيه، قالَتْ: أفتأمرني ؟ قال: لا، إنّما أنا شفيع، قد ألتمس منك، وقد أنصحُك، قد أتوسَّل إليك، وأرغبُ إليك، وأُوجّهك، ولكنّني إذا أمرتُك فهذا الأمْر يقتضي الوجوب، قال: لو تراجعينه، قالَتْ: أفتأمرني ؟ قال: لا، فُهِمَ من هذا الحديث أنّ مرتبة الأمر تقتضي الوُجوب، لو أنّه أمرها أنْ تراجعه ولمْ تستجب، لَعَصَتْ أبا القاسم، فكلُّ أمْرٍ في كتاب الله يقتضي الوجوب، إنّ الله خالق الكون، والذي خلقكَ من قبلُ ولم تكن شيئًا الذي مصيرك إليه، والذي إليك يُرجع الأمر كلّه، والذي هو في السماء إلهٌ، وفي الأرض إلهٌ، والذي يقضي بالحقّ، والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء، الذي له الخلْق والأمر، الذي هو على كلّ شيء قدير، الغنيّ الحميد، والعزيز الحكيم، والقويّ المتين، يقول لك: بل يأمرك، قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
[ سورة النحل ]
هذه الآية طبِّقْها في بيتك، للزوجة حقوق، وعليها واجبات، وينبغي أن يكون العدل بين الزوجين، أن تؤدّي ما عليها، وأن تأخذ ما لها، فإذا قصَّرتْ فيما عليها فأنت أيها الأخ المؤمن مأمورٌ من قبَلِ المولى جلّ وعلا بالإحسان كما أنّك مأمورٌ بالعدل، أكرموا النّساء فوالله ما أكرمهنّ إلا كريم، إما أنّها تستحقّ الإكرام، لأنّها تؤدّي ما عليها، فإكرامها عدْلٌ، وإما أنّها لا تستحقّ الإكرام لأنها لا تؤدّي ما عليها فإكرامها إحسان، قال تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
[ سورة النحل ]
اشْترى منك رجلٌ حاجة، وكان هناك إيجابٌ وقبول، وتحقَّقتْ شروط البيع الشرعيّة، وقبلَ، والبضاعة جيّدة، والسّعر معتدل، ورضي بالسّعر وانتهى كلّ شيء، وفي رأي الفقهاء لزِمَ البيع، فجاءك هذا الرّجل يتوسَّل إليك أنْ تعيد له الثَّمَن، وأن يردّ لك البضاعة، لقد ندِمَ على شرائها، فأنت في الأمر الأوّل لك الحقّ أن لا تستجيب له، لأنّ البيع عدلٌ ؛ هناك إيجابٌ وقبول، وهناك تسليم، وليس هناك عيبٌ في البضاعة، وقد دفع الثّمن، وانتهى الأمر، ولزم البيع، لكن أيّها الأخ الكريم المؤمن، لا تنسى أنّ الله سبحانه وتعالى يأمرك بالإحسان أيضًا، ومن الإحسان أن تقيلَ عثْرة النادم، فأنت مأمور بالعدل وبالإحسان، في كلّ حركةٍ من حركاتك، في كلّ نشاطاتك، وفي بيعك وشرائك، في ذهابك وخروجك وفي أيّ شيءٍ تفعلهُ أنت مأمور بالعدل، وبالإحسان، ومن الآمرُ ؟ هو الله سبحانه وتعالى، رافع السماوات بغير عمَدٍ، خالق كلّ شيء، من له الأمر، ومن يقضي بالحقّ، من هو على كلّ شيءٍ قدير، ومن إليه يرجع الأمر كلّه، من إليه مصيرك، قال تعالى:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾
[ سورة الغاشية ]
هو هو، ربّ العزّة يأمرك أن تكون مع الناس عادلاً، ومُحْسِنًا، حينما أمر الله سبحانه وتعالى أنْ نعاشر النّساء بالمعروف اسْتنبط علماء التفسير أنّ المعروف الذي أمرنا الله به هو ليس أن نمتنع عن إيقاع الأذى بهنّ بل أنْ نحتملَ الأذى منهنّ، ومعاشرتهنّ بالمعروف، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
[ سورة النحل ]
دع هذه الآية نُصْب عينيك، في كلّ تصرّف، وقبل كلّ تصرّف، وقبل كلّ موقف، وقبل كلّ قرار، قبل كلّ أخْذ، وقبل كلّ عطاء، وقبل كلّ موافقة، قبل كلّ رفْض، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
[ سورة النحل ]
اصْنَع المعروف مع أهله، ومع غير أهله، فإن أصبْتَ أهله أصبْتَ أهله، وإن لم تُصِب أهله فأنت أهله.
أيها الإخوة الأكارم، ما قيمة الحياة الدنيا من دون إحسان ؟ قال تعالى:
﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾
[ سورة الأعراف ]
الله سبحانه وتعالى ينزّل عليك الرحمة إذا كنت محسنًا، رحم الله عبدًا سمْحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، وسمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى والمؤمن هيِّنٌ ليِّن، يألفُ ويؤلف، هذا الذي يتمسَّك بحقّه، ولا يزيحُ عنه قيْد أُنملة، ويقول: حقّي لا أدعُ منه شيئًا، قال عليه الصلاة والسلام: بِحَسْب الرجل من الشحّ أن يقول حقّي لا أزيحُ عنه أبدًا، أو كما قال، كُنْ سموحًا، ومِعطاءً، هذه المشكلة إن لمْ تحلّ على آية العدل، إنّما تُحَلّ على آية الإحسان، رجلٌ يخطبُ في بعض مساجد دمشق، رأى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: قلْ لِجارِكَ فلان إنَّك رفيقي في الجنّة، رؤية حسنة، ورؤية الأنبياء حقّ، ذهب هذا الرّجل إلى جاره، وسألهُ عن الشيء الذي فعلهُ، واسْتحقّ به هذه البشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قصّة طويلة مؤدَّاها أنّه عاملَ زوجتهُ بالإحسان وكان بإمكانه أن يطلّقها، ولا أحد يلومهُ على ذلك، وبإمكانه أن يسحقها، أو أن يفضحها ولكنّه جعلها تتوب على يديه، وقبلها، واحتواها، وأوْصلها إلى التوبة، فقال: قلْ لجارك فلان إنّه رفيقي في الجنّة، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
[ سورة النحل ]
يا أخي الكريم أدّ الذي عليك، واطلب من الله الذي لك، لو طُبِّقَ هذا في الأُسَر لما وجدْت شِقاقًا زوجيًّا، لو أنّ المرأة عاملَتْ زوجها بالإحسان بِصَرْف النّظر عن معاملته إيّاها، لو أنّ الزوج عاملَ زوجته بالإحسان بِصَرف النَّظَر عن معاملتها له، لو أنّنا في البيع والشّراء جعلنا الإحسان هدفًا من أهدافنا، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
[ سورة النحل ]
ولكن أيّها الإخوة المؤمنون، أُريد أن أقول كلمة ؛ العدْل قسريّ، أما الإحسان فاختياري، فأنت إن رفعْتَ أمرك للقاضي فهو لا يستطيع إلا أن يلزمك بالعدل، أما الإحسان فهو اختياري، ولأنّه اختياري فله عند الله تعالى أجْرٌ عظيم، أنت مخيَّر، أن تحسن أو أن لا تحسن، فإذا أحسنتَ فالله سبحانه وتعالى في عليائه يرض عنك، وهل من مرتبةٍ في الأرض أعلى من أن يرضى الله عنك ؟ ما قيمة الدنيا ؟ كلّها زائلة، لو أنَّك خاصمْت خصْمَكَ ووصلْتَ إلى المبلغ الذي فرضتهُ عليه عن طريق القضاء هذا المبلغ ماذا ينفعك بعد الموت ؟ ولكنّك إذا عفوْتَ عنه وأرضيْتهُ، وقرَّبْتهُ إلى الله عز وجل، وجعلتهُ عن طريق هذه المعاملة يحبّ الدِّين فقد فُزْت برِضوان الله تعالى، ولأنْ يسقط الرّجل من السّماء إلى الأرض فتنكسرَ أضلاعه أهْوَنُ من أن يسقط من عين الله، كلمة رضي الله عنه هي أعلى مرتبةٍ ينالها الإنسان، قال:
فليْتَكَ تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ؟ ألا تحبّون أن يرضى الله عنك ؟ طبّق هذه الآية، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
[ سورة النحل ]
العدْل قسريّ، أما الإحسان فاختياري، ولأنّه اختياريّ فله عند الله أجرٌ كبير، إنّك تؤدّي الإحسان لا تحت وطْأة قرار القاضي، ولكن تحت وطأة رغبة إرضاء الله عز وجل، فهذا الذي يرفع من قيمة الإحسان، لا يسمّى الإحسان إحسانًا إذا كان قسريًّا، العدل قسْريّ، لو أنّك رفعْتَ أمرك إلى القاضي في موضوع بيع بيتٍ أو شرائه، وكان البيع صحيحًا، والإيجاب والقبول صحيحًا، ودُفِعَ الثّمن، وتسلَّمَ البيت، للزِمَ البيع، ولكنّه إذا رجاك أن تلغِيَ له هذه الصّفحة، ولمْ يكن بهذا مخادعًا، ولا محتالاً، ولا ناكلاً ولكنّها أسباب طارئة ظهرَتْ في حياته، وشرحها لك، قبلْتَ عذره، ورددْتَ له البيع، فقد رضي الله عنك، وأقال الله عثرتك يوم القيامة.