السَّـلامُ عليكُـم و رحمـةُ اللهِ وبركاتُـه ،،

^^

تأمَّلتُ في أحـوالِ الناسِ ، فرأيتُ أكثرَهم مهمومين مَغمومين ، لا يَخلو واحِـدٌ منهم مِن هَمٍّ أو غَمٍّ أو شَكوَى أو ألم .

لَعلَّ البعضَ يخرجُ للناسِ ، ويتحَـدَّثُ إليهم ، ويَضحَكُ ويبتسِمُ ، ويفرحُ ويَمزَحُ ، ويَنظُرُ إليه الآخَـرونَ على أنَّه سعـيدٌ مسرور .

لكنْ إنْ نظرتِ إليهِ في بيتِهِ ، أو بعـيدًا عن الناس ، لرأيتيهِ على عكس ما يَظُنُّون .. رُبَّما كَثُرَت عليه الدُّيون ، أو كان مريضًا ولا يعلمُ عنه أحـد ، رُبَّما ابتُلِيَ في زَوْجِهِ أو مالِهِ أو وَلَدِه .

فالعِبـرةُ ليست بما يَرَى الناس ، أو بما يَظُنُّون .

فكَم مِن الناسِ مَن يُخفِي هُمومَه وأحزَانَه خَلْفَ ابتسامةٍ أو مُزْحَةٍ أو ضَحِكَة .

إذا دخلتِ إحـدى المُستشفيات قـد تَظُنِّينَ أنَّ الحياةَ انتهت أو توقَّفَت عند هـذا المكان ... هـذا يبكي ، وآخَـرُ يصرُخ ، وثالِثٌ يتألَّم ، ورابِـعٌ يُجري جِراحةً خطيرة ، وخامِسٌ حزينٌ لوفاةِ قريبِهِ ، البعضُ يجري بمريضِهِ الذي تَعِبَ فجأةً ولم يتمكَّن مِن عِلاجِهِ أو سُرعةِ إنقاذِه ، وغيرُهُ يَبحثُ عن طبيبٍ يُعالِجُه ، ومَن ينتظِرُ دَورَهُ ليدخُلَ للطبيب ، ومَن يدعوا لمريضِهِ بالشِّفاءِ أو نجاح العملِيَّة ، إلى آخِـرِ ذلك مِن هُمومٍ وآلام .

إذا دخلتِ إلى بقالة قـد ترين أصحابَ الدّيون يتشاجرون .

في المدارس تجدين الغَيْرةَ بين المُعلِّمين ، وكذلك بين الطُّلاَّب ، مِمَّا يجعلُهم يختلِقون المُشكلاتِ بينهم .

في الشارعِ تجدين سائقي العَربات يتسابقون ، وقـد تقعُ الحوادِثُ بسببِ ذلك ، ورُبَّما يتشاجرون بسببِ الرُّكَّاب ، ورغبةِ كُلِّ واحِـدٍ منهم في أنْ يملأ عَربتَه بعـددٍ أكبر مِن الناس ، ظًنًّا منه أنَّ الرِّزْقَ بعَـددِ الرُّكاب ، وناسيًا أو مُتناسيًا أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى هو مُقَسِّمُ الأرزاق .

في البيوتِ تجدين مُشكلاتٍ بين الأزواجِ والزَّوجات ، الزَّوجان لا يُريدان التَّفَاهُم ، وكُلٌّ يُعانِـدُ ويَرفُضُ المُسامَحة .

وكذلك قـد يَحدُثُ الشِّجارُ بين الأولادِ لأسبابٍ تافهة ، أو تَحدُثُ الكراهيةُ بسببِ تفضيلِ الوالِدَيْنِ لبعضِ الأولادِ على بعض .

هـذه بعضُ الهُمومِ والمُشكلاتِ التي قـد تعـتري الناس .

وقـد تكونُ الهُمومُ نفسيَّةً ، وقـد تكونُ عُضوية . وما كان هَمًّا أو مُشكلةً لبعضِ الناس قـد لا يكونُ كذلك عند الآخَرين . فالناسُ مُتفاوتون في كُلِّ شئ .

* - * - * - * - *

كُلَّما رأيتُ صاحِبَ هَمٍّ استصغرتُ هَمِّي .

قـد يَظُنُّ المَرءُ أنَّ الدُّنيا توقَّفَت وأظلمَت في عينيهِ لِبَلاءٍ أصابَه ، ولا يَنظُرُ للحِكمةِ مِن وراءِ ذلك ، فلَعلَّه تكفيرٌ لسيئاتِهِ ، أو زيادةٌ في حسناتِهِ ، أو رِفعةٌ في درجاتِه ، ولعلَّه تنبيهٌ له لِيَرجِعَ عَمَّا يفعلُه مِن ذنوب ، وليتُوبَ إلى اللهِ سُبحانه وتعالى .

لكنَّ الإنسانَ مِن طبيعتِهِ التَّعَجُّلُ ، وقِلَّةُ الصَّبْر - إلَّا مِن شاءَ الله - ، وصَدَقَ رَبُّنا - سُبحانه وتعالى - إذْ يقول : ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا  الإسراء/11 . كُلُّ إنسانٍ يَنظُر لِمَا يعتريهِ ظانًّا أنَّ أحـدًا لم يُصَب بمُصيبَتِهِ ، ولَعلَّ غيرَهُ قـد أصابَهُ أكثر ، لكنَّ النظرةَ قاصِرة ، والهَمَّ قـد يعمي العَيْنَ عن النَّظَرِ لَمَا هو أبعـد .

* - * - * - * - *

فما الحَـلُّ ..؟ وما العَمَـل ..؟ أنستسلِمُ لِمَا يُصيبُنا مِن هُمومٍ ومُشكلاتٍ – أيًّا كان نوعُها – ونجلسُ واضعين أيدينا على خُدودِنا ..؟ أم نشكو ونتسخَّط ..؟ أم نعتزِلُ الناسَ ونقصِرُ تفكيرَنا وحياتَنا على ما أصابنا ..؟

وأقـول : كُلُّ أمرٍ وهَمٍّ وحُزنٍ وغَمٍّ في مُقابِلِ سلامةِ دين المَرءِ لا يُساوي شيئًا ، فإذا سَلِمَ دِينُكِ ، وصَحَّت عقيدتُكِ ، واستقمتِ على شَرْعِ اللهِ عَزَّ وجلَّ ، فلا يَضُرُّكِ بعـد ذلك شئ، فكُلُّها أمورٌ زائِلَة ، لكنْ يُؤجَرُ عليها مَن صَبَرَ وشَكَر ، ولم يتسخَّط ويتضجَّر . يقولُ نبيُّنا محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : (( عَجَبًا لأمرِ المُؤمِن ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خير ، وليس ذاكَ لأحدٍ إلَّا للمُؤمِن ، إنْ أصابته سَرَّاءُ شَكَر ، فكان خيرًا له ، وإنْ أصابته ضرَّاءُ صَبَرَ ، فكان خيرًا له )) رواه مُسلم .

وهكـذا الحياة ، طُبِعَت على كَـدَر .

طُبِعَتْ على كَـدَرٍ وأنتَ تُريدُها ... صَفوًا مِن الأقـذارِ والأكـدارِ

* - * - * - * - *

جلسنا مرةً نُعَـدِّدُ بعضَ ما يُصيبُ المرأةَ مِن آلامٍ طِيلةَ حياتِها .. فقُلنا :
بعـد الوِلادة تجدينها طِفلةً رضيعةً ، يُصيبُها ما يُصيبُ الأطفالَ في سِنِّها ، كثيرًا ما يَذهبُ بها أبواها للطبيب ، ثم تكبُرُ قليلاً فتُختَن ، ثم يأتيها الحَيْضُ ، ثم تتزوَّج ، وتتعرَّضُ بعـدها لآلامِ الحَمْلِ ، والوِلادةِ ، والرّضاعة ، ثم تربية الأبناءِ ، وتَحَمُّل مسئوليةِ البيتِ والزَّوْجِ والأولاد .

وصَدَقَ رَبُّنا سُبحانه وتعالى إذْ يقول : ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ  البلد/4 .

* - * - * - * - *

وهـذه نصيحـةٌ أُوَجِّهُها لنفسي أولاً ، ولكنَّ أخواتي ، فأقـولُ :

هل هَمِّي وهُمومُكُنَّ كهَمِّ يُوسُفَ – عليه السَّلام – حين أُلْقِيَ في الجُبِّ ( البِئر ) ، وسُجِن ، وتعرَّضَ لفِتنةِ امرأةِ العزيز ..؟!

هل ابتلاؤنا كابتلاءِ إبراهيمَ – عليه السَّلام – حين أُمِرَ بذَبحِ ابنِهِ ..؟! أو كابتلاءِ ابنِه إسماعيلَ – عليه السَّلام – عندما أخذَهُ أبوه لِيَذبَحَه ..؟!

هل ابتلاؤنا كابتلاءِ أيُّـوبَ – عليه السَّلام – حين أصابَه المرض ..؟! أو كابتلاءِ مريمَ – عليها السَّلام – حين اتُّهِمَت بالزِّنا ..؟! أو كابتلاءِ امرأةِ فِرعونَ حين عُذِّبَت لتتركَ توحيـدَ اللهِ جلَّ وعلا ..؟! أو كابتلاءِ نُوحٍ – عليه السَّلام – حين دعا قومَه 950 سنة ، فلم يُؤمِن به إلَّا القليل ..؟! أو كابتلاءِ أبي بكرٍ الصِّديق – رَضِيَ اللهُ عنه – حين اتُّهِمَت ابنتُه في عِرضِها ..؟! أو كابتلاءِ أحمد بن حنبل أو ابن تيمية أو غيرِهم ..؟! أو كابتلاءِ النبيِّ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم – في عِرْضِهِ ، وحين أخرجه قومُه مِن موطِنِهِ..؟!

لو عُـدنا للوراءِ قليلاً ، وتأمَّلنا الابتلاءاتِ التي تعرَّضَ لها أسلافُنا مِن الأنبياءِ عليهم السَّلام ، والصّحابةُ والتابعين رضوانُ اللهِ عليهم ، لهانت علينا مصائبُنا ، ولَحَمِدنا اللهَ عَزَّ وجلَّ على ما نحنُ فيه .

* - * - * - * - *

فلْنَصْبِـر ، ولنَحتسِبَ الأجرَ عند اللهِ جلَّ وعلا ، ولنُكثِر مِن ذِكرِهِ وشُكرِه ودُعائِهِ ، ولنجعل غايَتنا في كُلِّ أفعالِنا واحِـدة ؛ ألَا وهِيَ ( رِضا اللهِ سُبحانه وتعالى ، والفَـوزَ بجَنَّتِـه) ، فمع أول غَمَسةٍ فيها ننسى كُلَّ ما مَرَّ بنا في تلك الدُّنيا الفانية مِن متاعبَ ومصاعبَ ومَشاقّ ، وإليكِ قـولُ حبيبِنا محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : (( ... ويُؤتَى بأَشَدِّ الناسِ بُؤسًا في الدُّنيا مِن أهل الجَنَّة ، فيُصبَغُ صبغةً في الجَنَّة ، فيُقالُ له : يا ابَن آدم ، هل رأيتَ بُؤسًا قَط ؟ هل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَط ؟ فيقولُ : لا واللهِ يا رَبّ ، ما مَرَّ بي بُؤسٌ قَط ، ولا رأيتُ شِدَّةً قَط )) رواه مُسلِم .

فالصَّبْـرَ الصَّبْـرَ أخواتي .

وليَكُن صبـرًا جميـلاً ، بلا ضَجَـرٍ ولا سَأَم ، ولا يَكُن صبـرًا على مَضَض .

وهـذا ما دعا رَبُّنا سُبحانه وتعالى إليه نبيَّهُ مُحمدًا – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم – ونحنُ مِن بعـده ، بقولِهِ : ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا  المعارج/4 .

أتعلمنَ – أخواتي – عاقِبةَ الصَّبْـرِ وجزاءَه ..؟! اقـرأنَ قـولَ رَبِّنا سُبحانه وتعالى : ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ  الزمر/10 .

سُبحانَكَ رَبِّي ! ما أكرَمَكَ ! و أعظَمَكَ ! و أَوْسَعَ فضلِك !

* - * - * - * - *

أسألُ اللهَ جلَّ وعلا ألَّا يحرمنا فضلَهُ ، وأنْ يَشفِيَ مرضانا ، ويَرحَمَ موتانا ، ويُذهِبَ عَنَّا هُمومَنا وغُمومَنا ، وأنْ يُدخِلَنا الفِردوسَ الأعلى .