بسم الله الرحمن الرحيم
من الأساليب القرآنية التي اعتمدها القرآن لتبليغ الأحكام والتشريعات أسلوب ضرب الأمثال والتشبيه والتمثيل؛ وذلك أن الأفكار المجردة غالباً ما تكون عصية على الفهم والإدراك، بخلاف ما لو قدمت بأسلوب التمثيل والتشبيه، حيث تكون -والحال كذلك- أقرب إلى العقول، وأسهل على الفهوم.
ومن التمثيلات القرآنية التي ذكرها القرآن الكريم للتنفير من الغيبة، والزجر عن إتيانها، وبيان حرمتها، ما جاء في قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} (الحجرات:12).
وليس يخفى أن عرض المسلم من الضروريات الخمس التي حث الشرع على حفظها وصونها، ومن هنا جاء التمثيل في الآية غاية في البشاعة للتنفير من الغيبة، حيث جعلت الآية من يغتاب أخاه المسلم كالذي يأكل لحمه، فشبهت الآية تمزيق عرض المسلم بتمزيق لحمه. ولما كان المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته، كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت. ولما كان من وقعت عليه الغيبة عاجزاً عن دفع المغتاب عن نفسه؛ لكونه غائباً، فقد كان بمنزلة الميت الذي يُقطَّع لحمه، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
وإذا كان مقتضى الأخوة الإيمانية التراحم والتواصل والتناصر بين المؤمنين، فإن المغتاب بغيبته، عمل ما يضاد هذه الأخوة من الذم والعيب والطعن، وكان ذلك نظير تقطيعه لحم أخيه، والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والدفع عنه.
ولما كان المغتاب متفكهاً بغيبة من يغتابه وذمه، متحلياً بذلك، شُبِّه بأكل لحم أخيه بعد تقطيعه. ولما كان المغتاب محباً لذلك، معجباً به، شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتاً، ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله، كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه.
والملاحظ في هذا التمثيل القرآني، أنه طرق الجانب العاطفي والنفسي عند الإنسان؛ وذلك أن الطباع السليمة تنفر من أكل لحم الإنسان، وتستقذر ذلك أشد القذارة، فشبه من يغتاب أخاه المسلم بمن يأكل ما تعافه النفوس، وتنفر منه الطباع أشد النفور، فالتمثيل -كما قال ابن عاشور- مقصود منه استفظاع الممثَّل، وتشويهه؛ لإفادة الإغلاظ على المغتابين؛ لأن الغيبة متفشية في الناس، وهي أنيس مجالسهم، ووسيلة لتزجية أوقاتهم.
قال ابن القيم بعد أن بيَّن المراد من هذا التمثيل: "فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه، ومطابقة المعقول فيه للمحسوس. وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتاً، ووصفهم بذلك في آخر الآية، والإنكار عليهم في أولها، أن يحب أحدهم ذلك، فكما أن هذا مكروه في طباعهم، فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره، فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه، وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم، وهم أشد شيء نفرة عنه؛ فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه".
فإذا انكشف شيء من المراد من هذا التمثيل، فالذي ينبغي أن يقال: إن هذه الآية -بما تضمنته من تمثيل وتشبيه- تقيم سياجاً واقياً في المجتمع المسلم، حول حرمات الأشخاص وكراماتهم وحرياتهم، وتعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم ويوجهون ضمائرهم، في أسلوب مؤثر عجيب.
فحري بالمسلم الذي يقرأ هذه الآية، وما ذكرته من تشبيه شنيع للغيبة، أن يصون نفسه عن هذا السلوك المقيت، وأن يربأ بنفسه عن الخوض في أعراض الناس؛ كي يسلم له دينه وإيمانه.