بالعودة إلى مكونات السياسة الداخلية والخارجية لتركيا، يتضح جليا عدة تناقضات، على الأقل منذ وصول اوردوغان إلى الحكم، فمن جهة تسعى تركيا الحديثة إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية ولكن من خلال إضعاف الدول العربية الكبرى كمصر وسوريا، لدرجة أن الأولوية بنسبة لاوردغان إسقاط نظام بشار الأسد عوض مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، ولكن في المقابل تمكن اوردغان من تحويل تركيا إلى قوى اقتصادية بامتياز تنافس اقتصاديات الدول الكبرى، وأصبحت تركيا اوردغان نموذجا سياسيا واقتصاديا يقتدي به.
بين أن تكون ذيلا لأوروبا أو رأسا للدول العربية والإسلامية
أردوغان لسان سليط ضد الصهاينة وقلب يحتضن سفارة إسرائيل في عاصمة العثمانيين
في الوقت الذي التهب الجدل في تركيا، في الخِيار بين أن تكون البلاد غربية، ذيل في أوربا، وبين أن تكون شرقية، رأس للدول العربية أو الإسلامية، يلتهب الجدل في العديد من البلاد العربية والإسلامية، بين من يراها نموذجا عصريا لدولة إسلامية بإمكانها أن تواكب الدول المتطورة، من دون الخروج من الثوب الإسلامي وبين من يراها سلاح لتوقيف المدّ الإيراني لا أكثر ولا أقل، وبين من يعتبر رجب أردوغان، خالد بن الوليد الجديد، وبين من يراه لاعب سياسي ماهر، يلعب بالبيضة والحجرة معا، وبين هذا وذاك تنطلق تركيا وتجد لنفسها مكانا، فهي صديقة روسيا وأمريكا وإسرائيل وصديقة قطر وحركة حماس وإيران، ولا تكاد تجد من يعاديها باستثناء مصر عبد الفتاح السيسي، وبعض الأرمن والأكراد على أراضيها، ولكنها من الناحية الاقتصادية هي فعلا نموذجا، يصعب مواكبته.
ومنذ أن ارتضى الزعيم التركي مصطفى كمال آتاتورك لبلاده طريقا آخر غير الدولة العثمانية، منذ عشرينات القرن الماضي، ظلت العلمانية الخيار الوحيد للأتراك، من أجل الاقتراب من الأوروبيين، ولكنهم بقوا في أسفل القارة العجوز في كل المجالات، وأصبح الأتراك من أكثر الشعوب هجرة إلى الخارج، حتى بلغ تعدادهم في ألمانيا قرابة الأربعة ملايين تركي، واعتصرهم الفقر، فظهرت محاولات التغيير في الخمسينات، واحتضن الأتراك بعض التجارب الحزبية الإسلامية التركية التي لم تخرج من مظلة آتاتورك، إلى أن تسلّم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب أردوغان زمام الحكم في عام 2003، وبالرغم من أن الرجل رفقة صديق عمره عبد الله غل، تعهّد بأن يحافظ على علمانية تركيا، وأن لا يغيّر الدستور التركي، الذي يقرّ بحرية الديانة ولا يعترف بأن الإسلام هو دين الدولة التي يعتنق 98 في المئة من سكانها الإسلام، إلا أن بعض الشعوب العربية تذكرت ما تعرض له الرجل في بداية حياته السياسية، من تضييق ليس بسبب ولائه للزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان،، وإنما ترديدها في أحد اللقاءات نشيدا إسلاميا تركيا يقول: "مساجدنا ثكناتنا __ قبابنا خوذاتنا
مآذننا حِرابنا والمصلون جنودنا - هذا الجيش المقدس يحرس ديننا"
ولكن القطرة التي صبّت كل الفيض في كأس رجب أردوغان، هي موقفه البطولي في مختلف الحروب التي نتها اسرائيل على غزة، ثم تحوّل الرجل إلى بطل إسلامي بعد حادثة دافوس في بداية عام 2009، عندما انسحب من اللقاء ورفض أن يجلس إلى جانب شمعون بيريز، وتنقل عشرات الآلاف من الأتراك ومن العرب أيضا إلى مطار اسطنبول لاستقبال الرجل، ثم جاءت الحرب الأخيرة على غزة وما بعدها، لتحوّله إلى رمز، عندما حاول كسر الحصار على غزة بأسطول الحرية، ووقف إلى جانب الرئيس المصري محمد مرسي، فكان الرئيس الأكثر دعما للإخوان المسلمين المصريين في العالم، ولا يجد الإخوان حاليا من بلد يفتح لهم أرضه وإعلامه غير تركيا أردوغان، ويتمنى بعض المسلمين انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، حتى تمثل الأمة في الإتحاد القوي، ولكن تركيا، مازالت عاجزة عن إباحة ارتداء الحجاب مثل كل بلاد الإسلام وحتى أمريكا وبريطانيا في المؤسسات التعليمية، وعاجزة عن قطع العلاقات الديبلوماسية والعسكرية القوية جدا مع إسرائيل، كما في حياة أردوغان الكثير من نقاط الظل فموقفه المعادي للقذافي والمؤيد للقضاء عليه، لم يُنسِ العالم بأنه قبل في 29 نوفمبر 2010 احتفالية على شرفه من معمر القذافي تحصّل فيها على جائزة القذافي لحقوق الإنسان، ولكن الذين يصرّون على أن الرجل رمز وتركيا نموذجا يرون بأن البلاد قد كسرت الكثير من الطابوهات القديمة في طريق العودة إلى طيف الدولة العثمانية.